رسولهم إليه صلى الله عليه وسلم بالحديبية -: لقد وردت على النجاشي وقيصر وكسرى، ورأيت حديثهم وأتباعهم، [فما] (1) رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد، [هم] (1) حوله وكأن الطير على رؤوسهم، فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم وجلودهم، وكانوا له صلى الله عليه وسلم بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال بعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم قوم أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.
فتأمل - رحمك الله - كيف استفتح صلى الله عليه وسلم دعوته وهو ضعيف وحده بأن قال:
هذا سيكون فكان كما قال، بحيث رآه العدو والولي، وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال: هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، فكان كما أنذر، فعلم أن ذلك من فعل الله الذي لا يقدر عليه سواه، ولا يفعله إلا إياه جلت قدرته.
فإن سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد أنه رسول الله، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفي، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نشأ في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد إلا مرتين: إحداهما وهو صبي مع عمه إلى أول الشام، والأخرى أيضا إلى أول الشام، ولم يطل بها المقام، ولا فارق قومه، ثم أوطأه الله تعالى رقاب العرب فلم تتغير نفسه، ولا مالت به.
ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه - ذات الفضول - مرهونة في أصواع (2) من شعير، [و] (3) لم يتسبب صلى الله عليه وسلم إلى شئ من أذى اليهود - وهم أعداؤه - ولا يعرض لذم أحد منهم ولا إلى ماله، بل ودا (4) الأنصاري من عند نفسه مائة ناقة، وهو صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى بعير واحد يتقوى به، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا بوجه من الوجوه.