ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة، يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم [يعطي] (١) لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبذل فيها جهده، وينقح، ثم لا يزال [كذلك] (١) وفيها مواضع للنظر والبدل، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظه ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد (انتهى).
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت: أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله، أنزل الله تعالى: ﴿أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين﴾ (٢)، ثم أنزل تعجيزا لهم أبلغ من ذلك فقال: ﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ (٣)، فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار فقال:
﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ (4)، فأفحموا عن الجواب، وعدلوا إلى المحاربة (5)، حتى أظهر الله دينه.
ولو قدروا على المعارضة لكان أهون وأبلغ في الحجة، هذا مع كونهم أرباب البلاغة والفصاحة [والبيان] (6)، فبلاغة القرآن في [أعلى] (1) طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإعجاز والبيان، وبها قامت الحجة على العالم، فالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة [وأقاموا] (6) المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، وكان السحر في زمن موسى قد انتهى إلى غايته، [وكذلك] (7) الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم.