ثم طلب أن أقرأ له الدعاء المعروف ب " العديلة " وكان (رحمه الله) يرتله معي، وبعد إنهائها أشار علي أن أرتل عليه بعض الأدعية المأثورة عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، فأخذت أقرأ عليه منها المعروفة بمناجاة المتوسلين، والأخرى المدعوة بمناجاة المعتصمين، وهو يقرأ معي بصوته الخافت الحزين ويهمل عبراته، حتى اقترب الوقت من الزوال، وأشرف الزمن على دنو أذان الظهر بدأ يقرأ بنفسه ما شاء، وآخر ألفاظ قرأها، ونهاية جمل فاه في الحياة: " اللهم هذه سكرات الموت قد حلت فأقبل إلي بوجهك الكريم، وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم... " وما أن ختم دعاءه هذا حتى لبى داعي ربه، ولفظ آخر أنفاسه وفاضت روحه الشريفة إلى بارئها:
" ودعته فبودي لو يودعني * صفو الحياة وأني لا أودعه " وهكذا ختم شيخ الحفاظ والمحدثين، وعملاق التأريخ والسير، وبطل التحقيق والتأليف حياته الشريفة، بعد أن أمضى نصف قرن من عمره مكبا على المطالعة والتصنيف، ساهرا على العلم والفضيلة، لم يشهد الراحة والاستقرار في خدمة العقيدة ونشر علوم آل النبي الطاهر صلوات الله عليهم، متحملا الصعاب، صابرا على الشدائد والعناء لبلوغ الهدف السامي في أداء المسؤولية الدينية.
فكان لموته الأثر الهائل في الأوساط العلمية، والألم العام الشامل في الحواضر الإسلامية، هملت عليه العيون بالعبرات، وتوقدت عليه الأحشاء بالزفرات، وعقدت له المآتم، وأقيمت له مجالس العزاء، إذ الأمة فقدت بموته بطلا من أبطالها العلماء، ومصلحا فذا من أبنائها الصلحاء، من أنفاسه كانت تستمد النفوس، وبنفحات قلمه تنتعش الأرواح، يدرأ بلسانه وبنانه عن القلوب الشكوك، ويزيل عن الأفئدة الشبهات، وقد ترك بفقده فراغا لا يشغل، وثلم في المجتمع الإسلامي، ثلمة لا يسدها شئ.
" مات به الفضل الجم، والعلم الغزير، والهدي الصالح، والارشاد الناجح، والثقافة الصحيحة، والورع الصادق، والتقوى الخالصة، ماتت به أمة تهتدي به،