ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته أنت علي حرام حتى قال أبو بكر وعمر: هو يمين.
وقال علي وزيد: هو طلاق ثلاث.
وقال ابن مسعود: هو طلقة واحدة.
وقال ابن عباس هو ظهار، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى، وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم، إلا وقد قال بالرأي والقياس. ومن لم يوجد منه الحكم بذلك، فلم يوجد منه في ذلك إنكار، فكان إجماعا سكوتيا، وهو حجة مغلبة على الظن، لما سبق تقريره في مسائل الاجماع.
وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور، وذلك لا بد لهم فيها من مستند، وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل، وهو ممتنع، وذلك المستند يمتنع أن يكون نصا، وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص، إقامة لعذره وردا لغيره عن الخطأ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار، ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف. وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص، فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله، بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم، ولو أظهروا تلك النصوص، واحتجوا بها، لكانت العادة تحيل عدم نقلها، فحيث لم تنقل، دل على عدمها، وإذا لم يكن نصا، تعين أن يكون قياسا واستنباطا.
فإن قيل: لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس، وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي، فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة، كحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وترجيح أحد النصين على الآخر، والنظر في تقرير النفي الأصلي، ودلالة الاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والايماء، وأدلة الخطاب، وتحقيق المناط، وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية.