قوله تعالى: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن) ولم يقل من الجب استعمالا للكرم، لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه [عنهم] (1) بقوله: " لا تثريب عليكم ".
قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله: " رب السجن حب إلي مما يدعونني إليه " [يوسف: 33] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له. وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى، وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به، وأيضا دخله باختياره إذ قال: " رب السجن أحب إلي " فكان الكرب فيه أكثر، وقال فيه أيضا: " اذكرني عند ربك " [يوسف: 42] فعوقب فيه.
(وجاء بكم من البدو) يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل:
إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع، وإياه عنى جميل بقوله:
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا * إلي وأوطاني بلاد سواهما وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال:
غاروا غورا أي أتوا الغور، والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. (من بعد ما نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) بإيقاع الحسد، قاله ابن عباس. وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. (إن ربى لطيف لما يشاء) أي رفيق بعباده. وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله: " الله لطيف بعباده يرزق من يشاء (3) " [الشورى: 19]. وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور، والمراد هنا الإكرام والرفق. قال قتادة، لطف بيوسف بإخراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان. ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف أستأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب، وأخبره