كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه، وهو الطب، ومعجزة محمد عليه السلام، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة، وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.
القول الثاني: أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال: * (ورفع بعضهم درجات) * على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة.
فإن قيل: المفهوم من قوله: * (ورفع بعضهم درجات) * هو المفهوم من قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * فما الفائدة في التكرير؟ وأيضا قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * كلام كلي، وقوله بعد ذلك: * (منهم من كلم الله) * شروع في تفصيل تلك الجملة، وقوله بعد ذلك: * (ورفع بعضهم درجات) * إعادة لذلك الكلي، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركا.
والجواب: أن قوله: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله: * (ورفع بعضهم درجات) * فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرا.
أما قوله تعالى: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى قال في أول الآية: * (فضلنا بعضهم على بعض) * ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال: * (منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) * ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال: * (وآتينا عيسى بن مريم البينات) * فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى؟.
والجواب: أن قوله: * (منهم من كلم الله) * أهيب وأكثر وقعا من أن يقال منهم من كلمنا،