والغرض من ذلك اثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر والتقويض فان الفعل يصدر عن العبد باختياره، ولذلك أسند الفعل إليه في قوله تعالى:
" إياك نعبد " إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله له وبإمداده إياه بالقدرة آنا فآنا: " عطاء غير مجذوذ " بحيث لو انقطع المدد عنه في آن لم يستطع إتمام الفعل، ولم تصدر منه عبادة ولا حسنة.
وهذا هو القول الذي يقتضيه محض الايمان، فان الجبر يلزمه أن يكون العقاب على المعاصي عقابا للعبد من غير استحقاق، وهذا ظلم بين:
" سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا 17: 43 ".
وإن التفويض يلزمه القول بخالق غير الله فان معناه أن العبد مستقل في أفعاله، وأنه خالق لها، ومرجع هذا إلى تعدد الخالق وهو شرك بالله العظيم والايمان الحق بالله هو الحد الوسط بين الافراط والتفريط، فالفعل فعل العبد وهو فاعله باختياره، ولذلك استحق عليه الثواب أو العقاب، والله سبحانه هو الذي يفيض على العبد الحياة والقدرة وغيرهما من مبادئ الفعل إفاضة مستمرة غير منقطعة، فلا استقلال للعبد، ولا تصرف له في سلطان المولى، وقد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن (1).
هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى، فلولا الإفاضة الإلهية لما وجد فعل من الافعال ولو تظاهرت الجن والإنس على إيجاده، فإن الممكن غير مستقل في وجوده، فيستحيل أن يكون مستقلا في إيجاده، وبما ذكرناه يظهر الوجه في تأخير جملة: " إياك نستعين " عن قوله: " إياك نعبد " فإنه تعالى حصر العبادة بذاته أولا، فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله، ثم أبان لهم أن عباداتهم إنما تصدر