وذلك ألذ شئ عندهم، وأجل موقعا من قلوبهم، ومثل ذلك لا يطلب المحب ثوابا عليه وجزاء به، وإنما يطلب ذلك على ما عليه فيه مشقة وكلفة، كالتلفت إلى الأظعان، وتكرير النظر إلى الديار، واستقطار الدمع في الرسوم والآثار، ألا ترى إلى قول الشاعر:
ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة * إلا وذكرك يثني دائبا عنقي وقول الآخر: [1] تلفت نحو الحي حتى وجدتني * وجعت من الاعياء ليتا وأخدعا والاشعار في ذلك أكثر من أن تستوعب وتستوفي، فإذا وضح ما ذكرناه كان قول ذي الرمة مشيرا إلى هذا المعنى، فيكون طلبه الجزاء والثواب من محبوبه إنما هو على المشقة التي عليه في بكائه، وتصاعد أنفاسه، ومتابعة النظرات إلى الجانب الذي به أحبابه وفيه أشجانه، من غير أن يكون هناك رؤية يلتذ بها، أو لقية يستروح إليها.
وفي هذا الشعر أيضا دليل على بعد دار من يهواه من داره، لقوله:
(واني متى أشرف من الجانب الذي * به أنت...)، ولا يكون اشراف البقاع في الأكثر إلا لتطلب رؤية مرمى سحيق، ومسقط حي بعيد، وذلك أيضا أعظم مشقة على الناظر، وأصعب كلفة على الطالب، وهو أجدر لمشقته بأن يطلب عليه الثواب ويلتمس به الجزاء. فأما قول الشاعر [2]:
فلما بدا حوران والآل دونه * نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا