قالوا: وعلمه تعالى من القسم الثاني، وهذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية، وهو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل، حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عن إحاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد وطلب عن الأول الحق سبحانه فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل هو المنبع لفيضان الوجود في الكل.
القول الثاني: قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة، وإليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين.
وهو أن علة خلق الباري للعالم تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولي وتريده غير ممكن لترفض محبتها إياها وعشقها لها، وتعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم.
واعلم أن هذا القول هو القول المحكى عن الحرنانية أصحاب القدماء الخمسة، وحقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة: اثنان منهم حيان فاعلان، وهما الباري تعالى والنفس، ومرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس التي في العالم كالأرواح البشرية، والقوى النباتية والنفوس الفلكية ويسمون هذه الذات النفس الكلية. وواحد من الخمسة منفعل غير حي، وهو الهيولي، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان، وهما الدهر والقضاء. قالوا: والباري تعالى هو مبدأ العلوم والمنفعلات، وهو قائم العلم والحكمة، كما أن النفس مبدأ الأرواح والنفوس فالعلوم والمنفعلات تفيض من الباري سبحانه فيض النور عن قرص الشمس، والنفوس والأرواح تفيض عن النفس الكلية فيض النور عن القرص، إلا أن النفوس جاهلة لا تعرف الأشياء إلا على أحد (1) وجهين: إما أن يفيض فيض الباري تعالى عليها تعقلا وإدراكا، وإما أن تمارس غيرها وتمازجه، فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة والمخالطة معرفة ناقصة، وكان الباري تعالى في الأزل عالما بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى