وتعشقها، وتطلب اللذة الجسمانية، وتكره مفارقة الأجسام، وتنسى نفسها، ولما كان الباري سبحانه قائم العلم والحكمة، اقتضت حكمته تركب الهيولي لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب، فجعل منها أفلاكا وعناصر وحيوانات ونباتات، فأفاض على النفوس تعقلا وشعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الأول ومعرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولي لم تنفك عن الآلام، فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام، ورفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها ومضرتها.
القول الثالث: قول المجوس: إن الغرض من خلق العالم أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو، وأن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه، ويجعله في ربط ووثاق، والعدو عندهم هو الشيطان، وبعضهم يعتقد، قدمه وبعضهم حدوثه.
قال قوم منهم: إن البارئ تعالى استوحش، ففكر فكرة رديئة، فتولد منها الشيطان.
وقال آخرون: بل شك شكا رديئا، فتولد الشيطان من شكه.
وقال آخرون: بل تولد من عفونة رديئة قديمة، وزعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه، وكان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه، فلم يزل يزحف حتى رأى النور، فوثب وثبة عظيمة، فصار في سلطان الله تعالى في النور، وأدخل معه الآفات والبلايا والسرور، فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك والأرض والعناصر شبكة له، وهو فيها محبوس، لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول، وصار في (1) الظلمة، فهو أبدا يضطرب ويرمى الآفات على خلق الله سبحانه، فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت، ومن أصحه رماه الشيطان بالسقم، ومن سره رماه بالحزن والكآبة، فلا يزال كذلك، وكل يوم ينتقص سلطانه وقوته، لان الله تعالى يحتال له كل يوم، ويضعفه إلى أن تذهب قوته كلها،