واعلموا أن الأمان لمن خاف الله، وباع قليلا بكثير وفانيا (1) بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيسلبها (2) بعدكم الباقون، حتى ترد إلى خير الوارثين! ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، تغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير ممهد ولا موسد، قد صرم الأسباب (3) وفارق الأحباب، وواجه الحساب، وصار في التراب، غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم (4).
[من خطب ابن نباتة] ومن خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت:
أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره! وأبعد سداد من كان هواه أميره!
وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئره! وأمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره! فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتأهبوا لوثبات المنون، فإنها كامنة في الحركات والسكون، بينما ترى المرء مسرورا بشبابه، مغرورا بإعجابه، مغمورا بسعة اكتسابه، مستورا عما خلق له لما يغرى به، إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها، وكدرت له الأيام شرابها وحومت عليه المنية عقابها، وأعلقت فيه ظفرها ونابها، فسرت فيه أوجاعه، وتنكرت عليه طباعه، وأظل رحيله ووداعه، وقل عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا بصر حائر، وقلب طائر، ونفس غابر، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه، وأذعن بانتزاع روحه عن بدنه، حتى إذا تحقق منه اليأس، وحل به المحذور والبأس، أومأ إلى خاص (5) عواده، موصيا لهم بأصاغر أولاده، جزعا عليهم من ظفر أعدائه وحساده