نعلم كنه الباري سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة، فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون: إنا نعرف حينئذ كنهه، فهو عليه السلام رد قولهم، وقال: إنه لا وقت أبدا على الاطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه، لا الآن ولا بعد الآن، وهو الحق، لأنا لو رأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين، ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته، ولا جهة له سبحانه. وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف ب " زيادات النقضين (1) "، وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة، وأنها لا تجري مجرى العلم، لان العلم لا يشخص المعلوم، والرؤية تشخص المرئي، والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة.
واعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع، منها قوله تعالى:
" ولا يحيطون به علما " (2) ومنها قوله: " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " (3) وقال بعض الصحابة: العجز عن درك الإدارك إدراك، وقد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحة المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي:
أتبعته فكري حتى إذا بلغت * غاياتها بين تصويب وتصعيد (4) رأيت موضع برهان يلوح وما * رأيت موضع تكييف وتحديد (5) وهذا مدح يليق بالخالق تعالى، ولا يليق بالمخلوق.
فأما قوله: " فطر الخلائق... " إلى آخر الفصل، فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز، فقوله: " فطر الخلائق بقدرته " من قوله تعالى: " قال من رب السماوات والأرض