فسبحان الله كيف فارقوا الدور ونزل بهم من الله المحذور، وصاروا إلى القبور واحتبروا دواهي تلك الأمور (1) فعلم كل عبد منهم أنه كان مغرورا، فغير موصوف ما نزل بقلوبهم (2) اجتمعت عليهم خلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت، فاغبرت لها وجوههم وتغيرت لها ألوانهم، وفترت لها أطرافهم، وحركوا لمخرج أرواحهم أيديهم وأرجلهم، وعرقت لها جباههم.
ثم ازداد الموت فيهم فحيل بين أحدهم ومنطقه وإنه ليدير بصره في أهله يبصر ببصره ويسمع بسمعه، وإنه على صحة من عقله قد منع كلامه (3) يفكر بعقله فيما أفنى عمره وفيما ذهبت أيامه ويتذكر أموالا جمعها (4) أغمض في مطالبها قد لزمه وبالها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه فيكون المهنئ لغيره، والمرء قد علقت بها رهونه، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت وزهدا فيما كان يرغب فيه في حياته [و] يتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها أنها كانت له دونه.
ثم لم يزل الموت يربده (5) ويبالغ في جسده حتى خالط الموت سمعه فصار / 84 / بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه في النظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع كلامهم فما زال يزيده حتى خالط عقله فصار لا يعقل بعقله. ثم زاده الموت حتى خالط بصره فذهبت من الدنيا معرفته وهتكت عند ذلك حجته (6).