فإن قلت كيف قلتم إن المذهب الرابع أيضا ضعيف لم يقم عليه دليل صحيح وقد أقام عليه الحنفية دلائل من الكتاب والسنة قال صاحب البحر الرائق استدل أبو حنيفة على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن بقوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث والنجاسات لا محالة من الخبائث فحرمها الله تعالى تحريما مبهما ولم يفرق بين حالة اختلاطها وانفرادها بالماء فوجب تحريم كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة ويكون جهة الحظر من النجاسة أولى من جهة الإباحة لأن الأصل أنه إذا اجتمع المحرم والمبيح قدم المحرم ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسل فيه من جنابة ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته ويدل أيضا قوله عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الاناء فإنه لا يدري أين باتت يده فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أنها لا تغير الماء ولولا أنها مفسدة عند التحقيق لما كان للأمر بالاحتياط معنى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسته بولوغ الكلب بقوله طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا وهو لا يغير وهذا كلام الرازي والحاصل أنه حيث غلب على الظن وجود نجاسة في الماء لا يجوز استعماله لهذه الدلائل لا فرق بين أن يكون قلتين أو أكثر أو أقل تغير أو لا وهذا هو مذهب أبي حنيفة والتقدير بشئ دون شئ لا بد من نص ولم يوجد انتهى كلام صاحب البحر الرائق وقال أيضا وما صرنا إليه يشهد له الشرع والعقل أما الشرع فقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك وأما العقل فإنه إذا لم يتيقن بعدم النجاسة إلى الجانب الآخر أو يغلب على ظننا والظن كاليقين فقد استعملت الماء الذي فيه نجاسة يقينا وأبو حنيفة لم يقدر ذلك بشئ بل اعتبر غلبة ظن المكلف فهذا دليل عقلي مؤيد بالأحاديث الصحيحة المتقدمة فكان العمل به متعينا انتهى قلت هذه الدلائل كلها غير مفيدة أما الاستدلال بآية ويحرم عليهم الخبائث فلأن هذه الآية تفيد تحريم أكل الخبائث لا مطلق استعمالها بقرينة ما قبله وهو قوله تعالى ويحل لهم الطيبات فإن الحل والحرمة غالبا يستعملان في المأكولات ولذا فسر المفسرون الخبائث بالميتة والدم والخنزير وأمثال ذلك فالمعنى يحل لهم أكل الطيبات ويحرم أكل الخبائث فإذن لا تفيد الآية إلا حرمة النجاسة المخلوطة بالماء أكلا لا حرمة مطلق استعمالها ولئن سلمنا أن المراد تحريم
(١٧٥)