زمانة، ونفسه من تلف، وماله من بوار، وحبيبه من فراق، وكل ذلك يشهد شهادة قطعية انه فقير إلى ربه، ذليل في قبضته، محتاج إليه، لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه، وعمر آخرته بتخريب دنياه، وإذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر والتأسي، لم يغتر بتتابع النعم، وابطاء حلول النقم، وأدام صحبة التقى، وفطم النفس عن الهوى، فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها، ولا يمكنه أن يزيد فيها، ومثل ذلك يوشك فناؤه، وسرعة زواله.
وقالت حرقة بنت النعمان، حين حضرت عند سعد بن أبي وقاص:
ان الدنيا دار زوال، ولا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالا، وتعقبهم بعد حال حالا، كنا ملوك هذا المصر، يجبى لنا خراجه، ويطيعنا أهله مدى المدة، وزمان الدولة، فلما أدبر الامر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد، انه ليس يأتي قوما بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والامر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرتها * لا تبيتن قد أمنت الدهورا قد يبيت الفتى معافى فيردى * ولقد كان آمنا مسرورا فبينا هي واقفة، إذ دخل عمرو بن معد يكرب، وكان زوارا لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها، قال: أنت حرقة؟ قالت نعم. قال: فما دهمك فأذهب محمودات شيمك، وأين تتابع نعمتك، وسطوات نقمتك؟ فقالت:
يا عمرو! ان للدهر لسطوات وعثرات وعبرات، تعثر بالملوك وأبنائهم، فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزة، ان هذا الامر