الاختلاف في هذا الموضع قلت قد زعمت أن في اختلاف كل واحد من المختلفين حكمين وتركت قولك ليس الاختلاف إلا حكما واحدا قال ما تقول أنت؟ قلت الاختلاف وجهان فما كان لله فيه نص حكم أو لرسوله سنة أو للمسلمين فيه إجماع لم يسع أحدا علم من هذا واحدا أن يخالفه وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل العلم الاجتهاد فيه بطلب الشبهة بأحد هذه الوجوه الثلاثة فإذا اجتهد من له أن يجتهد وسعه أن يقول بما وجد الدلالة عليه بأن يكون في معنى كتاب أو سنة أو إجماع فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين فاجتهد فخالف اجتهاده اجتهاد غيره وسعه أن يقول بشئ وغيره بخلافه وهذا قليل إذا نظر فيه قال فما حجتك فيما قلت؟ قلت له الاستدلال بالكتاب والسنة والاجماع قال فاذكر الفرق بين حكم الاختلاف قلت له قال الله عز وجل (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) وقال (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) فإنما رأيت الله ذم الاختلاف في الموضع الذي أقام عليهم الحجة ولم يأذن لهم فيه قال قد عرفت هذا فما الوجه الذي دلك على أن ما ليس فيه نص حكم وسع فيه الاختلاف؟ فقلت له فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى المسجد الحرام فقال (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة فكان الأغلب على أنها في جهة والأغلب على غيري في جهة ما الفرض علينا؟ فإن قلت الكعبة فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عمن نأوا عنها فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جهدهم على ما أمكنهم وغلب بالدلالات في قلوبهم فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف وكان كل مؤديا للفرض عليه بالاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه وقلت قال الله (ممن ترضون من الشهداء) وقال (ذوي عدل منك) أفرأيت حاكمين شهد عندهما شاهدان بأعيانهما فكانا عند أحد الحاكمين عدلين وعند الآخر غير عدلين قال فعلى الذي هما عنده عدلان أن يجيزهما وعلى الآخر الذي هما عنده غير عدلين أن يردهما قلت له فهذا الاختلاف قال نعم فقلت له أراك إذن جعلت الاختلاف حكمين فقال لا يوجد في المغيب إلا هذا وكل وإن اختلف فعله وحكمه فقد أدى ما عليه قلت فهكذا قلنا وقلت له قال الله عز وجل (ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فإن حكم عدلان في موضع بشئ وآخران في موضع بأكثر أو أقل منه فكل قد اجتهد وأدى ما عليه وإن اختلفا وقال (والآتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع وأضربوهن فإن أطعنكم) الآية وقال عز وجل (فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أرأيت إذا فعلت امرأتان فعلا واحدا وكان زوج إحداهما يخاف نشوزها وزوج الأخرى لا يخاف به نشوزها؟ قال يسع الذي يخاف به النشوز العظة والهجر والضرب ولا يسع الآخر الضرب وقلت وهكذا يسع الذي يخاف أن لا تقيم زوجته حدود الله الأخذ منها ولا يسع الآخر وإن استوى فعلاهما قال نعم قال: قال وإن قلت هذا فلعل غيري يخالفني وإياك ولا يقبل هذا منا فأين السنة التي دلت على سعة الاختلاف قلت أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) قال يزيد بن الهاد فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم فقال هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال وماذا: قلت ما وصفنا من أن الحكام والمفتيين إلى اليوم قد اختلفوا في بعض ما حكموا
(٣٠٠)