على أن يأخذ السلطان الديني محله من النفوس، فقد كانت البلاد تعاني من طبقية جذرية الأضلاع حادة الزوايا - بالتعبير الهندسي - فبينما نجد الرخاء والترف والنعيم من حظ الطبقة الحاكمة، نجد على العكس، عامة الشعب يتلوى من الجوع، ولا يجد عملا يتحصل منه على شئ يسد رمقه، أو يشفي تشقق الشفاه الظامئة من لهيب كبدها الجائعة العطشى؟
ولم يكن هناك شئ يخفف من آلام العامة إلا السلطان الديني، ولكنه على مر الأيام وتزايد سقم الجوع، وتخم الأغنياء، واستفحال ظلم الحكومة، وانحراف رجال الدين، لا بد وأن يضمحل، فالجوع مخرب للرؤوس، مشوش للعقائد، لا سيما عند الذين يعبدون الله على حرف، وبالأخص في العقائد الضالة التي لا تستند إلى حقيقة إلهية صحيحة، فإنها أحرى أن تتلاشى، وأن تذوب أمام هذا الظلم الاجتماعي، والانحراف الإداري، والضياع الديني.
لذلك فقد خبا لهيب السلطان الديني، وباتت الصدور خاوية منه، فأراد الفلاسفة أن يملأوا هذا الفراغ في عملية ارتقاء وجداني تسمو فيه العواطف بالعقل إلى أعلى، وتلتذ بحلاوة التفكير لتذهب مسغبة البطن، وتأخذ الفلسفة محلها في مراقبة السلوك محل السلطان الديني فقامت التعاليم الفلسفية بشذى ديني، والتحم الشعور الديني بالتذوق الفلسفي، أو التقت المشاعر الدينية التي هي طبيعية في الانسان من ناحية كونه إنسانا، بالضوء الفلسفي الخلاب، واستطال هذا الامتزاج حتى صنع من الأديان التي تؤمن بها الدولة الرومانية وحدة طقوس وشعائر، فالتقت المسيحية مع الفلسفة، مع الطقوس الوثنية القديمة، وكان الشعب خليطا في أفراده يضم يهودا ومسيحيين ووثنيين وخليطا في ثقافته يجمع المسيحية والوثنية واليهودية فوجدت الفلسفة المتدينة، أو الدين المتفلسف جوا بشريا بعناصره البيولوجية والسيكولوجية يتلائم معها، فكانت المسيحية التي امتزجت بالفلسفة، والأفكار الوثنية، أو الوثنية التي صارت مسيحية وانصهرتا معا في بوتقة تسمى الفلسفة، لك أن تسمي هذه الأخلاط ما تشاء،