بحمير لا عقول لهم ولا بصائر، فموه لهم أمرا فاتبعوه، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار، فلما لم يزده ذلك إلا تماديا وبغيا لقيناه بعادة الله التي عودناه من النصر على أعدائه وعدونا، وراية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأيدينا، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل المواطن، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب، فركب فرسه، وقلب رايته، لا يدري كيف يحتال.
فاستعان برأي ابن العاص، فأشار عليه بإظهار المصاحف، ورفعها على الأعلام والدعاء إلى ما فيها، وقال: إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وتقيا (1)، وقد دعوك إلى كتاب الله أولا وهم مجيبوك إليه آخرا. فأطاعه فيما أشار به عليه؛ إذ رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه.
فمالت إلى المصاحف قلوب، ومن بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم، وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه، فأصغوا إلى دعوته، وأقبلوا بأجمعهم في إجابته، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء.
فلم يقبلوا قولي، ولم يطيعوا أمري، وأبوا إلا إجابته، كرهت أم هويت، شئت أو أبيت، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض: إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان، أو ادفعوه إلى ابن هند برمته.