كتاب الفتوح - أحمد بن أعثم الكوفي - ج ٥ - الصفحة ١٥٦
ثم أعلن عبد الله بن الزبير ما هو فيه، وأرسل إلى سعد مولى عتبة بن أبي سفيان وهو متحصن بالطائف، فأرسل إليه بقوم فحاصروه حتى استنزلوه في خمسين رجلا من أصحابه من شيعة يزيد بن معاوية، فأتوا بهم إليه فأمر بحبسهم، ويقال:
إنه قتلهم عن آخرهم - والله أعلم -.
قال: ثم أقبل حتى نزل دار البلاط بمكة فجعلها دار إمارته. قال: وتفرق كل من كان بمكة من شيعة بني أمية خوفا على أنفسهم، فصاروا إلى الشام، وأنشأ بعض أهل مكة يقول:
[بلى أم حمد ما تحمد أهله * فكيف بذي وجد من القوم آلف من أجل أبي بكر جلت عن بلادها * أمية والأيام دار تعارف وقد حل في دار البلاط مطوع * قبول على الأرحام ليس بعاطف وعما قليل سوف يأتي بيثرب * عليها من الأبطال ذات زواحف] قال: وبلغ أهل المدينة أن عبد الله بن الزبير بايعه أهل مكة والطائف وسائر الحجاز فوثبوا على عاملهم عمرو بن سعيد بن العاص (1) فأخرجوه من المدينة، وأخرجوا من كان معه من بني أمية فطردوهم بأجمعهم وبايعوا عبد الله بن الزبير (2).

(١) كذا بالأصل، وفي الطبري ٥ / ٤٨٢ وابن الأثير ٢ / ٥٩٣ والإمامة والسياسة ١ / ٢٣٠ عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
(٢) في الطبري بايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل.
ويرى صاحب الإمامة والسياسة أن السبب في خلع أهل المدينة يزيدا أن يزيد كان قد أرسل إليهم كتابا جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني قد نفستكم حتى أخلفتكم ورفقتكم حتى أخرفتكم، ووضعتكم على رأسي قد وضعتكم وأيم الله لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل منها عددكم وأترككم أحاديث تناسخ كأحاديث عاد وثمود، وآيم الله لا يأتيكم مني أولى من عقوبتي، فلا أفلح من ندم.
قلت: لم يكن كتاب يزيد إلى أهل المدينة، ولا تعيينه عثمان بن محمد بن أبي سفيان ذلك الفتى الغر الحدث الغمر الذي لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن ولم تضرسه التجارب والذي كان لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله السبب في خلافهم على يزيد، وخلعهم إياه ونكثهم بيعتهم له.
وقد يكون هو العامل الذي حرك الأسباب الحقيقة لتحرك أهل المدينة خاصة ودفعها إلى الواجهة حيث أخذت المواجهة بين المدنيين والحكم الأموي المتمثل بيزيد الطابع الصدامي والأكثر دموية.
ولحركة المدينة أسباب كثيرة منها سياسية ومنها اقتصادية واجتماعية، وأهم هذه الأسباب:
- السياسة الأموية التي وضع معاوية بن أبي سفيان خطوطها الأولى كانت وراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمدينة والتي دفعت بها إلى حدود الضيق والفقر (انظر تفاصيل حول هذه السياسة أوردها د. إبراهيم بيضون في كتابه الحجاز والدولة الإسلامية ص ٢٥٠ وما بعدها).
- القهر السياسي الذي عانى منه الحجاز عامة والمدينة ومكة خاصة حيث حظر على زعمائهما تجاوز الاهتمامات الاجتماعية والثقافية بعد انتقال الخلافة إلى الشام.
- رفض الحكم الأموي، وقد جاء غياب معاوية فرصة لإظهار هذا الفرض من الخفاء إلى العلن، وقد كان غيابه مؤشرا للإنفجار المرتقب حيث كان وجوده عاملا في منعه أو تجميده.
- فشل الخليفة يزيد أمام الأزمات الخطيرة التي واجهت حكمه وانغماسه (حسب الروايات) بالترف والمجون واستغراقه حتى العبث في حياته الخاصة في إذكاء روح المعارضة وتجرؤها على الإعلان عن نفسها.
- ضربه الرموز الإسلامية بمنتهى العنف، حيث رأى في اتباعه هذه السياسة مدخلا إلى إثبات حضوره السلطوي لكن هذا شجع المعارضة على المبادرة إلى اتخاذ موقف علني ضده.
- ثورة الحسين التي كانت السباقة إلى رفض الأمر الواقع والتي انتهت بمأساة دموية في العراق وأوقعت النظام الأموي وأدواته في ارتباك شديد.
- حركة ابن الزبير التي استطاعت أن تستثمر النقمة المتزايدة على الحكم الأموي.
- وجود الوالي عثمان بن محمد بن أبي سفيان والذي وصف بأنه غر قليل التجربة حديث السن وأخفاقه في التعاطي مع المستجدات الخطيرة في مكة والمدينة.
- محاولة أهل المدينة (الأنصار) إعادة التوازن الذي اختل منذ السقيفة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دعوة ابن الزبير للمدينة لبيعته بعد مقتل الحسين لم يرافقها في المدينة كثير من الحماسة فقد انقسمت بين مؤيد له ومتحفظ ومتردد، لكن اللقاء مع ابن الزبير تمحور حول هدف كبير مشترك هو الإطاحة بالخليفة الأموي، وما تولي عبد الله بن حنظلة (من الأوس) إلا إشارة على التوجه الأنصاري لأهل المدينة. وهذا ما سيؤدي (كما سيرد) إلى استفراد المدينة في الحملة العسكرية التي استهدفتها.
(١٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 (كتاب الضحاك بن قيس إلى يزيد بن معاوية) 5
2 ذكر كلام يزيد بن معاوية 9
3 ذكر الكتاب إلى أهل البيعة بأخذ البيعة 9
4 ذكر كتاب يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة 18
5 ذكر وصية الحسين بن علي إلى أخيه محمد ابن الحنفية 20
6 ذكر وصية الحسين رضي الله عنه لأخيه محمد رضي الله عنه 21
7 ذكر أخبار الكوفة وما كان من كتبهم إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما 27
8 ذكر الكتاب الأول إلى الحسين رضي الله عنه 27
9 ذكر الكتاب الثاني 29
10 ذكر كتاب الحسين بن علي إلى أهل الكوفة 30
11 ذكر خروج مسلم بن عقيل رضي الله عنه نحو العراق 32
12 ذكر نزول مسلم بن عقيل الكوفة واجتماع الشيعة إليه للبيعة 34
13 ذكر مسير عبيد الله بن زياد ونزوله الكوفة وما فعل بها 38
14 ذكر هانئ وعبيد الله بن زياد 45
15 ذكر مسلم بن عقيل رحمه الله وخروجه على عبيد الله بن زياد 49
16 ذكر دخول مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد وما كان من كلامه وكيف قتل 55
17 ذكر هانئ بن عروة ومقتله بعد مسلم بن عقيل رحمهما الله تعالى 61
18 ذكر كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية 62
19 ابتداء أخبار الحسين بن علي عليهما السلام 64
20 ذكر مسير الحسين إلى العراق 69
21 (قصة عبيد الله بن الحر الجعفي) 73
22 ذكر الحر بن يزيد الرياحي لما بعثه عبيد الله بن زياد لحربه الحسين بن علي رضي الله عنهما 76
23 ذكر كتاب الحسين رضي الله عنه إلى أهل الكوفة 81
24 ذكر نزول الحسين رضي الله عنه بكربلاء 84
25 ذكر اجتماع العسكر إلى حرب الحسين بن علي رضي الله عنه 89
26 ذكر ابتداء الحرب بين الحسين وبين القوم 101
27 ذكر الذين قتلوا بين يدي الحسي بن علي 101
28 وهذه تسمية من قتل بين يدي الحسين من ولده وإخوانه وبني عمه رضي الله عنهم 110
29 ذكر كلام زينب بنت علي رضي الله عنها 121
30 ذكر دخول القوم على عبيد الله بن زياد 122
31 ذكر عبد الله بن عفيف الأزدي ورده على ابن زياد ومقتله رحمه الله 123
32 ذكر كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية وبعثته إليه برأس الحسين بن علي رضي الله عنهما 126
33 ذكر ما كان بعد قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما 135
34 ذكر قدوم سلم بن زياد أخي عبيد الله بن زياد على يزيد بن معاوية وتوليته بلاد خراسان 136
35 ذكر كتاب يزيد بن معاوية إلى محمد ابن الحنفية ومصيره إليه وأخذ جائزته 137
36 ابتداء ذكر عبد الله بن الزبير وفتنته ودعوته الناس إلى بيعته 140
37 ذكر حبس المختار بن أبي عبيد الكوفي وما كان عبيد الله بن زياد لعنه الله 143
38 ثم رجعنا إلى الخبر الأول 144
39 ذكر حرب المختار من ابن زياد وما كان من بيعته لعبد الله بن الزبير 146
40 ابتداء حرب وأقم وقتل فيها من أولاد المهاجرين والأنصار والعبيد والموالي 150
41 ذكر الوقعة الأولى بين مكة والمدينة بين عمرو بن الزبير وأخيه عبد الله ومقتل عمرو بن الزبير 153
42 ذكر مسير مسلم بن عقبة المري إلى مكة 159
43 ذكر حرة وأقم وما قتل فيها من المسلمين 159
44 ثم رجعنا إلى أخبار الشام 169