ومع ذلك فإن كل من في الأرض ما بين أقصى السند إلى أقاصي خراسان، إلى ثغور الديلم والجزيرة والشام، إلى منتهى بلاد الأندلس، إلى سواحل البربر إلى بلاد السودان، وما بين ذلك من الأمم، كلهم ينقلون القرآن كما هو، ولم يكن ممنوعا ولا مكتوما عن أحد.
وكل من ذكرناه كانوا أعداء متباينين، وأحزابا متجانبين، وقوما لقاحا لا ملك عليهم لأحد عليهم، فانقادوا لظهور الحق، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم وهم لا يخافون منه، كباذان الملك بصنعاء اليمن، وحيفر وعياذ ابني الجلندي، والملكين بعمان، والنجاشي ملك الحبشة، وصاروا إخوة كبني أب وأم، وانحل كل من أمكنه منهم عن ملكه، وأرسله إلى ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طوعا، كذي الكلاع وذي ظيلم، وذي روذ، وذي مران وغيرهم من ملوك اليمن، وملك عمان والبحرين، وشهر بن باذام، إلا من لا يمكنه ذلك خوف قومه كالنجاشي، وهذا أمر مشهور منقول بنقل الكواف، وأذعن سائر من ذكرنا بغلبة سيوف الحق، دون مال أعطاه صلى الله عليه وسلم، ولا ملك منى به من نصره، بل حضهم بأجمعهم على الصبر، وأنذر بالأثرة عليهم أنصاره.
ولم يكن إسلام الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، إسلام أكثر أهل مكة، وأهل البحرين، إلا لما بهرهم من المعجزات، وهو صلى الله عليه وسلم حينئذ مطرد مشرد، لا ملك له، ولا عوان، لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في بلاد الجهل، بينما لا مال له، بل كان يرعى غنم قومه على قراريط يتقوت بها، فعلمه الله تعالى الحكمة دون توسط معلم، ولا تدرج يتعلم، وعصمه من كل ما أراد على كثيرة أعدائه، دون حرس ولا ستور ولا أعوان، وحماة الدنيا وزينتها، واختار تعالى له أرفع الدرجات من الدعاء إلى ربه وإلى دينه فقط.
فهذه هي الحقائق المشهورة، لا ما تدعيه النصارى فيما بأيديهم من الإنجيل أنه منقول بنقل الكواف، وأن الملوك دخلت في دينهم اختيارا فإن الأمر بخلاف ذلك، وبيانه أن الإنجيل ما هو إلا كتاب كتبه أربعة: اثنان من الحواريين