دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده. وقال الأصمعي عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك. فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد! فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟
هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟ رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك. ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله. ثم نزل. - قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.
والظاهر أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة. وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه:
انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بن عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟ وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إلي أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك. وقد روي ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك عن أبي سعيد. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ". وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعا. وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة