" ان الحكم إلا لله " (يوسف: 40) ولذلك تأدب عليه السلام ولم يذكر لنفسه حاجة لأنه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذي أكرمه بها ربه، وذكر ان نجاته من مهلكة الجهل واندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الامر إليه وسكت.
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وهو الصبوة وإلا فالسجن فتخلص من السجن والصبوة جميعا، ومنه يعلم أن مراده من كيدهن هو الصبوة والسجن جميعا، واما قوله عليه السلام: " رب السجن أحب إلى، الخ " فإنما هو تمايل قلبى إلى السجن على تقدير تردد الامر وكناية عن النفرة والمباغضة للفحشاء وليس بسؤال منه للسجن كما قال عليه السلام:
الموت أولى من ركوب العار * والعار أولى من دخول النار لا كما ربما يظن أنه سأل بذلك السجن فقضى له به، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين " (يوسف: 35) لظهور الآية ان سجنه كان عن رأى بدا لهم بعد ذلك، وقد كان الله سبحانه صرف عند قبل ذلك كيدهن بالدعوة إلى أنفسهن والتهديد بالسجن.
ومنه ما حكى الله سبحانه من ثنائه ودعائه عليه السلام حيث قال: " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتى ان ربى لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليى في الدنيا والآخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين " (يوسف: 101).
فليتدبر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوة وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الامر وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه إخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة.