ثم في قوله: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " تطييب آخر لنفس أبيه، وكل ذلك من أدبه مع أبيه عليه السلام.
وقد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع والجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الامر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية، ولتخل عنها ساحة النبوة، وقد ذم الله لذلك قوما إذ قطعوا أمرا ولم يعلقوا كما قال في قصة أصحاب الجنة: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون " (القلم: 18) وقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه بأن يستثنى في قوله تأديبا بكناية عجيبة إذ قال: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله " (الكهف: 24).
ومن ذلك ما حكاه الله عن يعقوب عليه السلام حين رجع بنوه من مصر وقد تركوا بنيامين ويهودا بها قال تعالى: " وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى يكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون " يوسف: 86).
يقول لبنيه إن مداومتي على ذكر يوسف شكاية منى سوء حالي إلى الله ولست بائس من رحمة ربى أن يرجعه أي من حيث لا يحتسب، وذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم ويوردوا عامة حركاتهم وسكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما قال: " أولئك الذين هدى الله " (الانعام: 90) وقال في خصوص يعقوب: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا " (الانعام: 84) ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى:
" ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " (ص: 26).
فالأنبياء وهم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح ومأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله