فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كل من ذكره، ويقصده كل من قصده وتتشخص به الوجهة، وتتحد به الكلمة.
والدليل على أنه عليه السلام يريد بالأمن الامن التشريعي الذي هو معنى اتخاذه حرما دون الامن الخارجي من وقوع المقاتلات والحروب وسائر الحوادث المفسدة للأمن المخلة بالرفاهية قوله تعالى:: " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ " (القصص: 57) فإن في الآية امتنانا عليهم بأمن الحرم وهو المكان الذي احترمه الله لنفسه فاتصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد والقتل، والآية نزلت وقد شاهدت مكة حروبا مبيدة بين قريش وجرهم فيها، وكذا من القتل والجور والفساد ما لا يحصى، وكذا قوله تعالى: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (العنكبوت: 67) أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التي جعلناها.
وبالجملة كان مطلوبه عليه السلام هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذريته، وكان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعا دينيا يؤمونه بالسكونة واللواذ والزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلدا آمنا، وقد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه ولا يتفرقوا منه.
ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن والكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله واليوم الآخر فقال: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " وأما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون والكفار معا واختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفار فقط؟ وكيف يرزقون من الثمرات والأرض بطحاء غير ذي زرع؟
فلم يتعرض له في مسالته.
وهذا من أدبه عليه السلام في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضى حاجته؟ وما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ وهو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضى حاجته على السنة الجارية في الأسباب العادية ولا يفرق فيها بين المؤمن والكافر تمم دعاءه عليه السلام بما قيد به كلامه من قوله: