الشيطان - إلى أن قال - إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فبين أن دعوته لا كدعوة إنسان إنسانا إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعو من غير عكس.
وقد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس " (الناس: 5)، فبين أن الذي يعمل الشيطان بالتصرف في الانسان هو أن يلقى الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.
فيتبين بذلك كله أن كون الخمر وما ذكر بعدها رجسا من عمل الشيطان هو أنها منتهية إلى عمل الشيطان الخاص به، ولا داعى لها إلى الالقاء والوسوسة الشيطانية التي تدعو إلى الضلال، ولذلك سماها رجسا وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله:
" ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، وهذا صراط ربك مستقيما " (الانعام: 126).
ثم بين معنى كونها رجسا ناشئا من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " أي إنه لا يريد لكم في الدعوة إليها الا الشر ولذلك كانت رجسا من عمله.
فان قلت: ملخص هذا البيان أن معنى كون الخمر وأضرابها رجسا هو كون عملها أو شربها مثلا منتهيا إلى وسوسة الشيطان وإضلاله فحسب، والذي تدل عليه عدة من الروايات أن الشيطان هو الذي ظهر للانسان وعملها لأول مرة وعلمه إياها.
قلت: نعم، وهذه الأخبار وإن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الاخذ بها إلا أن هناك أخبارا كثيرة متنوعة واردة في أبواب متفرقة تدل على تمثل الشيطان للأنبياء والأولياء وبعض أفراد الانسان من غيرهم كأخبار أخر حاكية لتمثل الملائكة، واخرى دالة على تمثل الدنيا والأعمال وغير ذلك، والكتاب الإلهي يؤيدها بعض التأييد كقوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " (مريم: 17)، وسنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده " (الاسراء: 1)، أو في محل آخر مناسب لذلك.
والذي يجب أن يعلم أن ورود قصة ما في خبر أو أخبار لا يوجب تبدل آية من الآيات مما لها من الظهور المؤيد بآيات أخر، وليس للشيطان من الانسان إلا التصرف