ويدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إلخ) بما سيأتي من الايضاح.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر الآية " قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، والميسر هو القمار مطلقا، والانصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها، والأزلام هي الاقداح التي كانت يستقسم بها، وربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الاكل فيتأيد بذلك كون المراد به هيهنا هو ذلك.
فان قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الاخر الذي هو الاستقسام بالاقداح، ولا وجه لا يراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتلت ساداتها * فنساؤها يضربن بالأزلام وهو - كما روى - أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه " افعل " والثاني مكتوب عليه " لا تفعل " والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهى متشابهة فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب " افعل " عزم عليه، وإن خرج الذي مكتوب عليه " لا تفعل " تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين، وسمى استقساما لان فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.
فالآية تدل على حرمته لان فيه تعرضا لدعوى علم الغيب، وكذا كل ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة ونحوها.
قلت: قد عرفت أن الآية في أول السورة: " وأن تستقسموا بالأزلام " ظاهرة في الاستقسام بالاقداح الذي هو نوع من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الاكل، ويتأيد به أن ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.