وأخذت عائشة كفا من حصى، فحصبت به أصحاب علي عليه السلام، وصاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه! كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم حنين، فقال لها قائل:
وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان (1) رمى. وزحف علي عليه السلام نحو (2) الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه: حسن وحسين ومحمد عليهم السلام ودفع الراية إلى محمد، وقال: أقدم بها حتى تركزها في عين (3) الجمل، ولا تقفن دونه. فتقدم محمد، فرشقته السهام، فقال لأصحابه: رويدا حتى تنفد سهامهم، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان. فأنفذا إليه علي عليه السلام يستحثه، ويأمره بالمناجزة، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن، وقال له: أقدم لا أم لك!
فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكى، ويقول: لكأني أجد ريح نفسه في قفاي، والله لا أنسى ذلك أبدا. ثم أدركت عليا عليه السلام رقة على ولده، فتناول الراية منه بيده اليسرى، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه، ثم حمل فغاص في عسكر الجمل، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته. فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار، نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يجب أحدا منهم ولا رد إليهم بصره، وظل ينحط (4) ويزأر زئير الأسد، حتى فرق من حوله. وتبادروه وإنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة، لا يبصر من حوله، ولا يرد حوارا، ثم دفع الراية إلى ابنه محمد، ثم حمل حملة ثانية وحده، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما، والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتى خضب الأرض بدماء القتلى، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته، فاعصوصب (5) به أصحابه، وناشدوه الله في نفسه وفي الاسلام، وقالوا: إنك إن تصب يذهب الدين، فأمسك ونحن نكفيك. فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة.
ثم قال لمحمد ابنه: هكذا تصنع يا بن الحنفية، فقال الناس: من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين!