ما يجتمع فيه الماء ويقوى فينفجر بنفسه عيونا والى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات، والى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها، فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل.
ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل ما روي: ان ابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وان الملائكة قالت: يا ربنا هل خلقت شيئا أعظم من العرش؟ قال: نعم العقل. قالوا: وما بلغ من قدره؟ قال: هيهات لا يحاط بعلمه، هل لكم علم بعدد الرمل؟ قالوا: لا. قال: فاني خلقت العقل أصنافا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي حبة، ومنهم من أعطي حبتين، ومنهم الثلاث والأربع، ومنهم من أعطي فرقا، ومنهم من أعطي وسقا (32) ومنهم أكثر من ذلك.
فان قلت: فما بال أقوام يذمون العقل والمعقول؟
فاعلم أن السبب في ذلك ان الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والالزامات وهي صنعة الكلام، فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم انكم أخطأتم في التسمية، إذ كان ذلك لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة، فذموا العقل والمعقول [أعني] المسمى به عندهم، فأما نور البصيرة الباطنة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله، فكيف يتصور ذمه، وقد أثنى الله عليه، فان ذم ذلك فما الذي يحمد؟ فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع؟ فان علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضا مذموما، ولا يلتفت إلى قول من يقول: (انه يدرك بعين اليقين ونور الايمان لا بالعقل)، فانا نريد بالعقل ما يريده هو بعين اليقين ونور الايمان، وهي الصفة الباطنة التي