تارة يكون لتفاوت الشهوة، إذ قد يقدر العاقل على ترك بعض الشهوات دون بعض، ولكن غير مقصور عليه، فان الشاب قد يعجز عن ترك الزنى، فإذا كبر وتم عقله قدر عليه، وشهوة الرياء والرئاسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة، ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة، وقد لا يقدر من يساويه في العقل إذا لم يكن طبيبا وإن كان يعتقد فيها مضرة في الجملة، ولكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد، فيكون الخوف جندا للعقل، وعدة في قمع الشهوة وكسرها، وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من العامي، لقوة علمه بضرر المعاصي، وأعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان، فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل، وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا، فإنه يقوي غريزة العقل، فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل، فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد.
وأما القسم الثالث - وهو علوم التجارب - فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وبسرعة الادراك، ويكون السبب في ذلك اما تفاوتا في الغريزة، واما تفاوتا في الممارسة، أما الأول - أعني الغريزة - فهو الأصل، فالتفاوت فيه لا سبيل إلى انكاره، فإنه مثل نور يشرق على النفس، ويطلع صبحه ومبادئ اشراقه عند سن التمييز، ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة، ومثاله نور الصبح، فان أوائله تخفى خفاءا يشق ادراكه، ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يتكامل بطلوع قرص الشمس، وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور الشمس فالفرق يدرك بين الأعمش وبين الحاد البصر، بل سنة الله جارية في جميع