هو الذي يعرف الانسان به نفسه وربه، وخطر الخاتمة، وحجة الله على العلماء وعظم خطر العمل (1) فيه، وهذه العلوم تزيد خوفا وتواضعا وتخشعا ويقتضي أن يرى أن كل الناس خير منه، لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم.
فان قلت: فما بالبعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا.
فاعلم أن له سببين أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس بعلم حقيقي، وإنما العلم الحقيقي ما يعرف العبد به نفسه وربه، وخطر أمره في لقاء الله، والحجاب عنه، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والامن، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (2) فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الانسان لها حتى امتلاء بها امتلأ كبرا ونفاقا، وهذه بأن تسمى صناعات أولى بأن تسمى علوما، بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية، وطريق العبادة، وهذا يورث التواضع غالبا.
السبب الثاني أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة، ردي النفس سيئ الأخلاق، فلم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه، بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة ربه، فبقي خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم أي علم كان، صادف العلم من قلبه منزلا خبيثا فلم يطب ثمره، ولم يظهر في الخير أثره.
وقد ضرب وهب لهذا مثلا، فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها، فتحوله على قدر طعومها، فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة، وكذلك العلم يحفظه الرجال، فيحوله على قدر هممهم وأهوائهم فيزيد المتكبر تكبرا والمتواضع تواضعا، وهذا لان من كانت همته الكبر وهو جاهل، فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا، وإذا كان الرجل خائفا مع جهله، فإذا ازداد علما علم أن الحجة قد أكدت عليه، فيزداد خوفا وإشفاقا وتواضعا، فالعلم من أعظم ما به يتكبر.