وسلكوا منهاجهم، وألطفوا الفكر، وانتفعوا بالعبر، وصبروا في هذا العمر القصير من متاع الغرور الذي يعود إلى الفناء، ويصير إلى الحساب.
نظروا بعقولهم إلى آخر الدنيا، ولم ينتظروا إلى أولها، وإلى باطن الدنيا ولم ينظروا إلى ظاهرها، وفكروا في مرارة عاقبتها، فلم يستمرئهم (1) حلاوة عاجلها ثم الزموا أنفسهم الصبر، وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لاحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ، ولا ينتهون إلى الشبع من النتن، ويتعجبون من الممتلي منها شبعا، والراضي بها نصيبا.
إخواني! والله لهي في العاجلة والاجلة - لمن ناصح نفسه في النظر، وأخلص لها الفكر - وأنتن من الجيفة، وأكره من الميتة، غير أن الذي نشأ في دباغ الإهاب لا يجد نتنه، ولا تؤذيه رائحته، ما تؤذي المار به، والجالس عنده، وقد يكفي العاقل من معرفتها علمه بأن من مات وخلف سلطانا عظيما، سره أنه عاش فيها سوقة خاملا، أو كان فيها معافا سليما سره أنه كان فيها مبتلى ضريرا، فكفى بهذا على عورتها والرغبة عنها دليلا.
والله لو أن الدنيا كانت من أراد منها شيئا وجده حيث تنال يده من غير طلب ولا تعب ولا مؤنة ولا نصب، ولا ظعن ولا دأب، غير أن ما أخذ منها من شئ لزمه حق الله فيه، والشكر عليه، وكان مسؤولا عنه محاسبا به، لكان يحق على العاقل أن لا يتناول منها إلا قوته وبلغة يومه، حذرا من السؤال، وخوفا من الحساب وإشفاقا من العجز عن الشكر، فكيف بمن تجشم في طلبها من خضوع رقبته، ووضع خده، وفرط عنائه، والاغتراب عن أحبابه، وعظيم أخطاره، ثم لا يدري ما آخر ذلك؟ الظفر أم الحنيبة؟.
إنما الدنيا ثلاثة أيام: يوم مضى بما فيه فليس بعائد، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله، ولعلك راحل فيه، أما اليوم الماضي