بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٥٧ - الصفحة ١٨٨
أن يقول له كن فيكون (1). وهو سبحانه جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواص أودعها فيها، وتأثيراتها مشروطة بإذن الله تعالى وعدم تعلق إرادته القاهرة بخلافها، كما أنه أجرى عادته بخلق الانسان من اجتماع الذكر والأنثى وتولد النطفة منهما وقرارها في رحم الأنثى وتدرجها علقة ومضغة وهكذا فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى، ومن غير أم أيضا كآدم وحواء، وكخفاش عيسى وطير إبراهيم وغير ذلك من المعجزات المتواترة عن الأنبياء في إحياء الموتى. وجعل الاحراق في النار، فلما أراد غير ذلك قال للنار: كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وجعل الثقيل يرسب في الماء وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء ورفعهم إلى السماء وجعل في طبع الماء الانحدار فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء حتى تعبر بنو إسرائيل من البحر. ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شئ من

(١) لا بأس بتذييل لهذا التتميم يجعل نفعه أعم وفائدته أتم، فنقول:
هناك أمور لا مجال للارتياب فيها لمن له قدم في العلوم الإلهية.
(الأول) كل ما سوى الله تعالى مخلوق له محتاج إليه في جميع شؤونه الوجودية، سواء في ذلك الشؤون العلمية والإرادية وغيرها.
(الثاني) ان الله تعالى غنى عن جميع ما سواه ولا يحتاج إلى غيره في شئ أصلا، وليس لقدرته تعالى حد ونهاية، فهو القادر على كل أمر ممكن في ذاته، وليس لقدرته على شئ من الأشياء شرط ولا مانع، سبحانه وتعالى عما يصفون.
(الثالث) كل ممكن في ذاته يستوى نسبته إلى الوجود والعدم، ولابد في ترجح أحدهما من مرجح وهذا حكم ضروري لا يكاد يشك فيه عاقل فضلا عن الانكار اللهم الا من لم يتصور طرفي القضية أو عرض له شبهة لم يستطع دفعها أو مكابر ينكر باللسان ما يعترف به قلبا. و هذا أساس جل براهين التوحيد بل المعارف الحقة.
(الرابع) طريق معرفة العلل والمرجحات - سوى ما يعرفه الانسان وجدانا وبالضرورة - اختبار ارتباط وجود شئ بشئ وكشف حدود ذاك الارتباط، وهذا من معرفة صنع الله تعالى وكشف مجارى مشيئته في خلقه، لامن باب كشف شرائط قدرته تعالى على الأشياء فتفطن. و من الواضح ان معرفة سبب ما لشئ لا تنفي سببية شئ آخر له وقد ثبت في محله ان هذا ليس من صدور الواحد من الكثير لمكان تعدد الحيثيات. ولا أظن أن يرتاب أحد في سببية الأسباب والعلل لمسبباتها ومعلولاتها وارتباط الثانية بالأولى ارتباطا ذاتيا وجوديا إلا أن تعرض شبهة لمن لا يستطيع على حلها كالأشاعرة حيث قالوا بان عادة الله جرت على ايجاد شئ عقيب شئ آخر دون ان يرتبط به ارتباطا وجوديا، والتزموا بذلك زعما منهم ان القول بالعلية وارتباط المعلول بالعلة ينافي التوحيد، وجهلا بأن هذا منهم هدم لأساس التوحيد وإنكار لسنة الله تعالى في خلقه.
(الخامس) كل علة غير الواجب تعالى ليس مستقلا في التأثير كما أنه ليس مستقلا في الوجود، فكما انها تحتاج في ذاتها إلى علة أخرى حتى تنتهي إلى الواجب تبارك وتعالى فكذا في أفعالها وجميع شؤونها فما من اثر وجودي في شئ من الأشياء من حيث هو اثر وجودي إلا وهو مستند إلى الله تعالى قبل استناده إلى سائر علله ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة جدا نسب فيها أفعال العباد والمخلوقات إلى الله تعالى أو أنيط فيها تأثير الأشياء بإذن الله تعالى ومشيئته، لكن استناد الأفعال والآثار إلى الله سبحانه لا يوجب سلب انتسابها إلى عللها المتوسطة وتأثير العلل باذن ربها، فاستناد خلق الانسان إلى الله تعالى لا ينافي توسط ملائكة وتأثير أسباب ومعدات بل يستلزمها، لا لأنه سبحانه يحتاج إليها وقدرته على الخلق يتوقف عليها بل لأن مرتبة الفعل هي التي تقتضي ذلك، فكل معلول له مرتبة تخصه وحدود يتشخص بها بحيث لو تبدل بعضها إلى بعض لانقلب إلى شئ آخر، كما أن كل عدد له مرتبة خاصة لا يتقدم عليها ولا يتأخر عنها وإلا لانقلب إلى عدد آخر، وفيض الوجود مطلق لا يقيد من ناحية ذات المفيض تعالى بشئ بل مجارى الفيض هي التي تحدده حتى تتقدر باقدار خاصة تسعها ظروف المعاليل المتأخرة " وما ننزله إلا بقدر معلوم " فتقدره إنما هو عند نزوله واما عنده تعالى فالخزائن التي لا تتناهى وقد جرت سنته تعالى باجراء الأمور من أسبابها ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. نعم، من الأسباب ما يكون واضحا وكيفية تأثيره وشرائطه معروفة ومنها ما يكون خفيا لا يطلع عليها إلا الخواص بعد جهد بالغ وتجارب كثيرة، ومنها ما يكون غير عادى لا يستطاع الحصول عليه إلا لمن شاء الله تعالى فربما يدعى من لا يعرف هذين النوعين من الأسباب انحصار سبب شئ في ما هو الواضح المتعارف، كما كان الناس يزعمون استحالة كثير من الأمور التي حصلت اليوم ببركة العلم الحديث، وكما كان كثير من الأقوام يزعمون استحالة حدوث بعض الآيات قبل مشاهدتها ويسندونها إلى سحر الأعين بعد رؤيتها. لكن العقل السليم لا يأبى وجود أسباب خفية على الناس وغير طائعة لهم كما لا ينكر تأثير نفوس قدسية بأمر الله تعالى ولا يعد المعجزات وخوارق العادات تجويزا للمحال ولا ناقضا لقانون العلية، لكن يأبى استناد الحوادث أياما كانت بلا واسطة إلى الله تعالى لاستلزام ذلك اختلال سلسلة العلل و المعاليل وتقدر الفيض من غير مقدر والترجح بلا مرجح وأما مرجحية إرادة الله تعالى و مقدريتها للفيض فالإرادة ان فرضت حادثة في ذاته سبحانه استلزمت صيرورة الذات محلا للحوادث ومعرضا للكيفيات - جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - وان فرضت حادثة في خارج ذاته كانت مخلوقه له محتاجه إلى إرادة أخرى متسلسلة وتغيير العبارة والتعبير بالمشيئة لا يحل المشكلة وان فرضت قديمة لزم انفكاك المعلول عن العلة وأما الإرادة المنتزعة عن مقام الفعل فمنشأ انتزاعها نفس الفعل فلا تكون مرجحة له وهذا ليس بمعنى اشتراط قدرته تعالى على الفعل بحصول الأسباب واجتماع الشرائط واستعداد المواد، فان قدرته تعالى ليست محدودة بشئ ولا متوقفة على شئ، بل بمعنى نقص المقدور ومحدوديته ذاتا وتأخره عن علله رتبة وارتباطه بها ثبوتا، وبعبارة أخرى المعلول الخاص هو الذي يكون محدودا بحدود وقيود خاصة وإلا لم يكن ذاك المعلول لا أن الله تعالى لا يكون قادرا على ايجاد هذا المعلول إلا بهذه الخصوصيات كما أنه لا ينافي تكون الأشياء بنفس امر الله تعالى، فان أمره يوجب وجودها في ظروفها و على حدودها، وتعين الحدود والقيود من شؤون الموجود بأمر الله تعالى لامن قيود أمره و ايجاده فافهم.
إذا عرفت هذه الأمور علمت أن قواعد الفلسفة لا تنفي خوارق العادات وتكون الأشياء من غير طريق أسبابها المتعارفة، كما لا توجب محدودية قدرته تعالى وتوقفها على حصول استعدادات للمواد، وان أنكر ذلك منكر فلا يعاب به على القواعد العقلية كما لا يعاب بغلط المحاسب على قواعد الحساب، فنفس القواعد امر واجراؤها في مواردها امر آخر. والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
(١٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تعريف الكتاب تعريف الكتاب 1
2 * الباب التاسع والعشرون * الرياح وأسبابها وأنواعهابسم الله الرحمن الرحيم 1
3 تفسير الآيات، ومعنى قوله تعالى: " هو الذي أرسل الرياح بشرا " 2
4 في هبوب الرياح ومكانها 8
5 فيما قاله النبي صلى الله عليه وآله لما هبت الريح 19
6 فيما قاله الفلاسفة في سبب حدوث الرياح 21
7 * الباب الثلاثون * الماء وأنواعه والبحار وغرائبها وما ينعقد فيها، وعلة المد والجزر... 23
8 تفسير الآيات 24
9 علة الجزر والمد، وفيها بيان وشرح 29
10 في قوله النبي صلى الله عليه وآله: أربعة أنهار من الجنة، وفيه بيان 35
11 فيما قالته الحكماء في سبب انفجار العيون من الأرض 50
12 * الباب الحادي والثلاثون * الأرض وكيفيتها وما أعد الله للناس فيها وجوامع أحوال العناصر وما تحت الأرضين 51
13 في الأرض وما فيها 56
14 في السماء، وان السماء أفضل أم الأرض 58
15 قصة زينب العطارة، وسؤالها عن التوحيد، وما قاله النبي (ص) في التوحيد... 83
16 فيما قاله أمير المؤمنين (ع) في السكون وحركة الأرض، وفيه بحث وبيان في كرويته 95
17 فيما قاله الشيخ المفيد والسيد المرتضى رحمهما الله 99
18 * الباب الثاني والثلاثون * في قسمة الأرض إلى الأقاليم وذكر جبل قاف وسائر الجبال و كيفية خلقها... 100
19 بحث حول الأرض وكرويتها 102
20 قصة ذي القرنين 107
21 حديث البساط 124
22 علة الزلزلة 127
23 أقاليم السبعة ومساحتها، وأسماء بلادها 130
24 في خط الاستواء والآفاق المائلة 141
25 في الأشياء المتحجر 147
26 في علة حدوث الزلزلة والرجفة 148
27 * الباب الثالث والثلاثون * تحريم أكل الطين وما يحل أكله منه 150
28 علة تحريم أكل الطين 150
29 في طين قبر مولانا الإمام الحسين عليه السلام، وطين الأرمني 154
30 في جواز إدخال التربة في الأدوية 157
31 شرائط أخذ التربة، وما يؤكل له، ومقدار المجوز للاكل 160
32 الطين الأرمني والاستشفاء به واستعماله في الأدوية 162
33 * الباب الرابع والثلاثون * المعادن، وأحوال الجمادات والطبايع وتأثيراتها وانقلابات الجواهر، وبعض النوادر 164
34 بيان في تسبيح الجبال والطير، وتخصيص داود (ع) بذلك في سجود الأشياء 171
35 في تولد المعادن، والمركبات التي لها مزاج 180
36 بيان وشرح وتفصيل في تأثير الله سبحانه في الممكنات، وفي الذيل ما يناسب 187
37 فائدة شعر الرأس واللحية 191
38 في أن خلفاء الجور المعاندين لائمة الدين (ع) كانوا سببا لتشهير كتب الفلاسفة 197
39 * الباب الخامس والثلاثون * نادر 198
40 فيما سئل رسول معاوية أسئلة ملك الروم الحسن بن علي (ع) (عشرة أشياء... 199
41 * الباب السادس والثلاثون * الممدوح من البلدان والمذموم منها وغرائبها 201
42 في البقعة المباركة 202
43 في ذم البصرة، ومدح المدينة وبيت المقدس والكوفة ومكة، وأكرم واد على وجه الأرض 204
44 في قول الباقر عليه السلام: ستة عشر صنفا من أمة جدي لا يحبونا 206
45 في مدح الكوفة 209
46 في مدح الشام وذم أهلها 210
47 في مدح قم وذم الري 212
48 في قول الصادق عليه السلام: يظهر العلم ببلدة يقال لها: قم... 213
49 في قول الكاظم عليه السلام: رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق... 216
50 قصة فاطمة المعصومة عليها السلام وخروجها من المدينة... 219
51 في مدح اليمن وأهلها 232
52 قصة حمادويه بن أحمد بن طولون وأهرام المصر، والنيل والهرمين 235
53 الأهرام، وانه بناها إدريس النبي عليه السلام 240
54 * الباب السابع والثلاثون * نادر، في كتاب كتبه علي (ع) بما املاه جبرئيل على النبي (ص) 241
55 في كتاب كتبه علي (ع) بما أملاه جبرئيل على النبي (ص) إلى يهود خيبر... 241
56 * (أبواب) * * الانسان والروح والبدن وأجزائه وقوامهما وأحوالهما * * الباب الثامن والثلاثون * أنه لم سمى الانسان انسانا والمرأة مرأة والنساء نساء والحواء حواء 264
57 العلة التي من أجلها سمي الانسان إنسانا وسميت المرأة مرأة وحواء حواء 264
58 بحث وتحقيق وتفصيل وبيان في أن أول البشر هو آدم عليه السلام 266
59 * الباب التاسع والثلاثون * فضل الانسان وتفضيله على الملك وبعض جوامع أحواله 268
60 تحقيق الكلام في أن البدن الانساني أشرف أجسام هذا العالم 271
61 في تفضيل الانسان على الملائكة 275
62 معنى قوله تبارك وتعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض... 278
63 معنى قوله تبارك وتعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض... 300
64 فيما قاله السيد المرتضى (ره) في معنى قوله تبارك وتعالى: " خلق الانسان من عجل " 305
65 * الباب الأربعون * ما ذكره محمد بن بحر الشيباني الرهنى في كتابه من قول: مفضلى الأنبياء... 308
66 * الباب الحادي والأربعون * بدء خلق الانسان في الرحم إلى آخر أحواله 317
67 تفسير الآيات، ومعنى قوله تعالى: " خلقكم من طين " 320
68 معنى قوله تبارك وتعالى: " الذي أحسن كل شيء خلقه " 323
69 معنى قوله تبارك وتعالى: " خلق من ماء دافق "... 330
70 في غاية الحمل بالولد في بطن أمه 334
71 علة شبه الولد بأعمامه وأخواله 338
72 في دية الجنين والعلقة والنطفة 354
73 العلة التي من أجلها يولد الانسان هيهنا ويموت في موضع آخر 358
74 فيما سئله الخضر عليه السلام عن علي عليه السلام 359
75 فيما قاله الإمام الصادق عليه السلام للمفضل في خلق الانسان 377
76 العلة التي من أجلها يضحك الطفل ويبكي، وان بكاء الطفل شهادة بالتوحيد... 381
77 في مبدء عقد الصورة في مني الذكر ومبدء انعقادها في مني الأنثى 387
78 فيما فعله الصقالبة بأولادهم 389