معاوية قد مات. فقال أمير المؤمنين: قد أكثرتم من نعي معاوية، والله ما مات، ولا يموت حتى يملك ما تحت قدمي. وإنما أراد ابن آكلة الأكباد أن يعلم ذلك مني، فبعث من يشيع ذلك فيكم، ليعلم ويتيقن ما عندي فيه، وما يكون من أمره في المستقبل من الزمان. ثم ذكر أمير المؤمنين ما يكون من أمر معاوية وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب. فارتفع الضجيج. فقال رجل: إن ذلك كائن؟
قال الإمام: والله إن ذلك لكائن. فقال آخر: متى يكون؟ قال: إذا خضبت هذه من هذه - ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه - وأكثر الناس من البكاء فقال: لا تبلوا في وقتكم هذا. فستبكون بعدي طويلا. وبعد أن حدثهم الإمام، كاتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية سرا في أمورهم. واتخذوا عنده الأيادي (1).
هنا تكمن حقيقة الابتلاء، وهنا ترى حركة التاريخ، فالإمام يقاتل بضراوة وهو يعلم أنه مقتول وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد ويحذر وهو يعلم أن غلمان قريش سينزون على منبره نزو القردة، وكان ينادي بوحدة الأمة وهو يعلم أنها ستفترق إلى أكثر من سبعين شعبة، وكان يحذر من اتباع اليهود والنصارى وهو يعلم أن مساحة كبيرة من الأمة ستتبعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، والإمام علي من بايعه الناس وهو يخوض حروبا فتحوها عليه من كل جانب. ومع ذلك لم يهمل الاصلاح وإقامة الحجة وحشد الحشود، وهو يعلم أن الحشود من حوله ستنفض، ثم تأتيه ضربة من أشقى الناس فتخضب لحيته من رأسه، فما معنى هذا؟ لقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كليات الدين موجودة في فطرة الإنسان نفسه، وهذه الفطرة تهدي الإنسان إلى صراط الله العزيز. ومعنى أنها تهديه إلى طريق وإن هناك طريقا آخر يحمل معالم أخرى لا تهدي إلى صراط الله العزيز. ودائرة الفطرة يسهر عليها أنبياء الله ورسله - فالله يبعثهم بالدين، والدين طريق خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي. أما دائرة اللاهدى، فيسهر عليها