التي لا تقبل النسخ، فإنها آمرة بتهذيب الأخلاق وحسن الخطاب الذي هو من مصلحات النظام، وصون اللسان عن منقصة الفحش والبذاء، ولأجل ما ذكرنا غلط ابن الحصار من جعلها منسوخة بآية السيف.
ومن ذلك ما يحكم أن " هبة الله بن سلامة الضرير " أخطأ في قوله تعالى في سورة الدهر (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) وقال: إن حسن الاطعام فيها وجوازه منسوخة بالنسبة لأسرى المشركين فقالت له ابنته أخطأت فقد أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يموت جوعا، فأذعن بالخطأ وكان هو الناقل لهذه الحكاية.
ومن ذلك اضطرابهم في الخطأ في قوله تعالى في سورة الأعراف 198 (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، فقال " ابن العربي " إن أول الآية وآخرها منسوخ بآية السيف، بناء على أن المراد بالعفو ما يرادف الصفح، وقال بعض: إن أولها منسوخ بآية الزكاة، بناء على أن المراد بالعفو هو الفضل من الأموال، وكلا القولين خطأ لأنه إن حملنا العفو على معنى الفضل من الأموال لم تكن آية الزكاة مضادة له ولا ناسخة، فإن الزكاة من العفو والفضل من الأموال، بل يكون كل من الآيتين شارحا للأخرى، فكأنه قيل خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وهي من العفو والفصل من الأموال، هذا وإن حملنا العفو على معنى الصفح فإن معناه المسامحة وترك الانتقام عما مضى من الإساءة، وهو من مكارم الأخلاق التي يصلح بها الاجتماع وتتألف القلوب وتقوم بها الحجة، ويتبصر بها الغافل ورياضة نفسانية، وسياسة اقتصادية تتقدم بها شريعة الحق إلى الانتشار ولا مضادة للعفو كما أوضحناه، ولا منافاة له مع آية السيف، فانظر إلى آية السيف وهو قوله تعالى في سورة براءة 5: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) وانظر إلى ما قبل الآية وما بعدها من أول السورة إلى الثانية عشر فهل تجد في اللفظ أو المعنى أو السوق نهيا عن فضيلة العفو عما سبق من الإساءة، أو أن الله جل اسمه يقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة