شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٢١٣
فقال الإمام: يجب على السلطان أن يلزم العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان، ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، فلا يقوم سلطان لأهل الإيمان والكفر إلا بهما. والإمام العادل كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده.
فقال رجل آخر من الموالي: قال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر. فقال الإمام ضاحكا: حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذي هو ضده لا يقوم إلا به، وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم، احتاجوا إلى استعمال العدل في اقتسامهم، وإلا أضر ذلك بهم.
فقال رجل ثالث من الموالي: جاء في كتب الهند: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه، وإنزالهم منازلهم، واتهام بعضهم على بعض.
وقال رجل رابع من الموالي: قال أحد حكمائنا ينصح كسرى أنو شروان: كلمة منك تسفك دما، وأخرى تحقن دما، وسيفك مسلول على من سخطت عليه، ورضاك بركة مستفادة على من رضيت. وما نقول لك إلا هذا يا أمير المؤمنين، فاختر لولايتك أحد رجلين إما أن يكون وضيعا فرفعته، أو صاحب شرف مهمل فاصطنعته.
وعجب بعض العرب من أصحاب الإمام فصاح: ويلكم أتعلمون أمير المؤمنين وهو باب مدينة العلم.
فنصح الإمام أصحابه بالحلم، وطلب منهم أن يجعلوا الحكمة ضالتهم، فقد علمهم الرسول أن الحكمة ضالة المؤمن وأن عليه أن ينشدها، وقال لمن أنكر على الموالي أن يشيروا على أمير المؤمنين: لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فتقطع بذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الفخر، ولكن الانتفاع. ثم التفت الإمام إلى أصحابه قائلا: ما هلك امرؤ عن مشورة، ونعم المؤازرة المشاورة، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواضع الخطأ، مع الاستشارة خير من الصواب مع الاستبداد، فتعوذوا من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة، واعلموا أن الرأي يسد ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي. فلا يرفع أحدكم صوته بغير حجة على أحد من الموالي، واعلموا أن الظفر لمن احتج، لا لمن لج.
ثم التفت إلى أحد الذين صاحوا في وجه الموالي الأربعة وقال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، ولا يتعصب أحدكم لقبيلته أو لقومه من العرب، فقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة من عقول السفهاء.
وشرع الإمام يكتب إلى عماله الذين اشتكاهم الموالي، فكتب لأحدهم: اتق الله، ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، فإن الله لا يحب المتكبرين، واعلم أن من آذى إنجيليا فقد آذاني وكتب لوال آخر: أما بعد، فإن دهاقين بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا وجفوة، ولهم في ذمتنا عهد فامزج بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله.
وكتب لثالث: بلغني أنك تعمر دنياك بآخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، لئن كان الذي بلغني عنك حقا، لجمل أهلك وشعث نعلك خير منك، ومن كان بصفاتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله.
وكتب لرابع: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك، أنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك (اختارك) من أعراب قومك، لئن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا، ولتخفن عندي ميزانا. فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق آخرتك، فتكون من الأخسرين أعمالا.
وكتب لعامل غيره: بلغني أنك جردت الأرض، فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك.
وكتب لجميع عماله على أهل البلاد المفتوحة (أهل البلاد المفتوحة هم الموالي):
انظروا في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الملوك والأكاسرة والأباطرة أربابا لهم فتركوهم عالة مساكين.
وكتب إلى أحد عماله: أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين؟ أتطمع وأنت متمرغ في النعيم، تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدقين؟ فماذا لو أكلت طعامك مرة وأطعمت الفقير الجائع مرة؟ إنما المرء يجزى بما أسلف، والسلام.
وكتب لآخر: انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قبلك (عندك) من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات (الحاجات) وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا.
كتب لغيره: إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية، وفي يديك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزانة حتى تسلمه إلي.
وقال لأصحابه: اعلموا أن الولاة هم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة وقال: إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يعذر من علم كيف المرجع ولقد أصبحت في زمان قد أتخذ أكثر أهله الغدر كيسا (عقلا)، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا ورع له.
فقال الذين جاءوا من الشام: إن معاوية قد اصطنع أهل الشام جميعا، وكلهم حديث عهد بالإسلام، وكلهم لا يعرف إلا معاوية، وما يغدقه معاوية، ثم إنه ليصطنع رؤساء القبائل العربية، فيجزل لهم العطاء أضعافا مضاعفة، من أجل ذلك نكث الولاة الذين خافوا الإمام على ما كسبوه بغير حق وفروا إلى معاوية.
فقال أصحاب الإمام له: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء