شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٢١٣

عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك. إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من جبائلك أغربي عني، فوالله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله لأروضن نفسي رياضة تهش معا إلى القرض إذا قدرت عليه مطعوما - أي تفرح بالرغيف من شدة الحرمان وتقنع بالملح مأدوما، أيأكل علي من زاده فيهج فلا قرت إذن عينه، إذن أصبح بعد السنين المتطاولة كالبهيمة والسائمة طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
ثم مضى يعظهم: فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم وتزودوا من الدنيا في الدنيا ما تحفظون به أنفسكم غدا، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة وأن تؤديه أيامه إلى شقوة، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية.
وبكى وبكى معه بعض أصحابه مما يسمعون، فنظر إليهم الإمام، وما زالت في عينيه الدموع، فرأى من خلال الدمع صاحبا له قد بنى دارا كبيرة فقال له: لقد اتخذت دارا واسعة، فما تصنع بهذه الدار في الدنيا أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج.
فأجابه صاحبه في حياء وندم: بلى يا أمير المؤمنين. قال الإمام: إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري بها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها.
وقد حسب بعض المستمعين أنه كرم الله وجهه، يدعوهم إلى الخروج عما أحل الله من متاع الدنيا، فترك أحدهم أهله وبنيه، ولبس مرقعة واعتكف للعبادة، فدعاه الإمام وقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى أن الله أحل الطيبات وهو يكره أخذك منها، لقد علمتكم أن للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل.
فدع التواضع في الثياب تخوفا * فالله يعلم ما تجن وتكتم فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة * عند الإله وأنت عبد مجرم وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن * تخشى الإله وتتقي ما يحرم فاعلم رحمك الله أنه لا بأس بالغنى لمن اتقى، واعلم أن الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل زيادة على عملك، وأن تتقي الله في حديث غيرك فلا تعتزل الناس، فلا رهبانية في الإسلام وتدبر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: رهبانية أمتي الجهاد. وتعلم وعلم غيرك، فما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. وكفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه لغيرك، فخذ من الدنيا ما أتاك، وتول عما تولى عنك، أوليس الله تعالى يقول: (والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)؟ أوليس الله يقول: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) إلى قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ المرجان)؟ وقد قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث). فظل الرجل صامتا لا يرد على الإمام. فقال: تكلم يا رجل ليعرف الناس من أنت، فإن المرء مخبوء تحت لسانه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين تنهاني عن العزوف عن زينة الحياة التي أحل الله لعباده والطيبات من الرزق، فعلام اقتصرت في مطعمك على الطعام الغليظ وفي ملبسك على الخشونة؟ وتركت قصر الإمارة ونزلت منزل أفقر أهل الكوفة؟
فضحك الإمام كرم الله وجهه، وقال: إن الله الذي جعلني إماما لخلقه فرض على التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي ومسكني كضعفاء الناس، لأن الله أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدى بهم الغني، ولا يزري بالفقير فقره. فوالله ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر، ولو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته، فالفقر هو الموت الأكبر، وإني لأعرف أن الفقر غربة في الوطن، والغنى وطن في الغربة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت له: اغرب عني. فعند الصباح يحمد القوم السرى. والله لأن أبيت على حسك السعدان (الشوك الحاد) مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد أو غاصبا لشئ من الحطام. وإن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسوة، إذ قبضت عنه أطراف الدنيا، وفطم عن رضاعها، وزوى عن زخارفها، وكان يلبس ويطعم أخشن مما ألبس وأطعم. وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الطعام الغليظ، وكان سراجه بالليل القمر، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه.
وجاء بعض الموالي من أهل الكوفة يشكون الولاة وأعوانهم، فقال لهم: وأين علماؤكم؟ لقد أخذ الله عليه العلماء ألا يقروا ظالما ولا يسكتوا عن مظلوم.
ثم سألهم عن أعوان الولاة، فعلم أن الولاة لا يحاسبونهم فقال: يجب على الوالي أن يتعهد، أموره، ويتفقد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسئ، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك أعوانه تهاون المحسن واجترأ المسئ، وفسد الأمر.
فقال أحد الموالي: سأل الإسكندر حكماء بابل أيها أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل لم نحتج للشجاعة.
(٢١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 209 210 211 212 213 213 213 213 224 225 226 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686