أصل الشيعة وأصولها - الشيخ كاشف الغطاء - الصفحة ١٩٤
وبقي شيعته منضوين تحت جناحه، ومستنيرين بمصباحه (1)، ولم
(١) إن إدراك حقيقة الموقف الذي اتخذه أمير المؤمنين علي عليه السلام بالتسليم الظاهري لواقع الحال الذي ترتب عليه وضع الدولة الاسلامية بعد وفاةرسول الله صلى الله عليه وآله، لا يتأتى إلا من خلال التأمل الدقيق لمفردات الواقع الذي عايشته تلك الدولة الفتية والغضة أبان تلك الفترة الحساسة والدقيقة من حياتها ووجودها المقدس.
أقول: إن من الثابت الذي سجله معظم المؤرخين لتلك الحقبة الغابرة من التأريخ الاسلامي أن أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة حاولوا قسرا وتهديدا إجبار الإمام علي عليه السلام على البيعة لأبي بكر أول الأمر، والتنازل عن موقفه المبتني على حقه الشرعي في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى بلغ الأمر بهم إلى التهديد الصريح بإحراق بيته عليه السلام، وحيث كانت فيه بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وثلة من الصحابة الذين أعلنوا رفضهم لما ترتب عليه الأمر في سقيفة بني ساعدة أثناء غيبة أهل البيت عليهم السلام وانشغالهم بأمر تغسيل وتكفين رسول الله صلى الله عليه وآله، بالشكل الذي ينبغي أن يكون عليه، لما يمثله من الوداع الأخير لنبي الرحمة صلى الله عليه وآله.. وإلى حقيقة هذه المحاولة الخطيرة التي لجأ إليها هؤلاء الصحابة أشارت بوضوح الكثير الكثير من المصادر والمراجع التأريخية المختلفة المثبتة لوقائع الأيام الأولى لما بعد وفاةرسول الله صلى الله عليه وآله (راجع: تأريخ الطبري، الإمامة والسياسة لابن قتيبة، أنساب الأشراف للبلاذري، تأريخ ابن شحنة، تأريخ أبي الفداء، شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي، كتاب الملل والنحل للشهرستاني، مروج الذهب، العقد الفريد، كتاب أعلام النساء لابن طيفور، وغيرها).
وتحضرني اللحظة جملة أبيات شعرية قرأتها للشاعر حافظ إبراهيم، تشير بوضوح إلى هذا الأمر، يقول فيها:
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع، وبنت المصطفى فيها!
ما كان غير أبي حفص بقائلها * أمام فارس عدنان وحاميها!!
بيد أن هذه المحاولة الرهيبة والتي تشكل سابقة خطيرة في التأريخ الاسلامي، وغيرها من المحاولات السقيمة لم تكن لتؤدي بالنتيجة المرجوة من قبل الحكومة الاسلامية آنذاك لولا الحس العميق، والادراك الدقيق لجلمة النتائج المترتبة على الوقوف المعارض المعلن أمام ذلك الطرف المستهجن في مسيرة الدولة الاسلامية وما سيتلاقى به مع واقع الحال الذي يحيط بالدولة الفتية من كل جانب لدى الإمام علي عليه السلام وإلى ذلك تشير خطبه وكلماته المليئة بالشكوى والتظلم.
نعم، لقد كانت المدينة المنورة وما يحيط بها حلقة حساسة وخطيرة لقربها من مركز الدولة الاسلامية وعاصمتها، في حين كان يعتاش بين جدرانها وإلى جوارها من يريد الكيد بها، والانقضاض عليها، ومن هؤلاء:
أولا: المنافقون الذين كانوا يشكلون شريحة لا يستهان بها، بل وكان خطرهم أكبر وأعظم من أن يغض الطرف عنه.
قال تعالى في سورة التوبة الآية 101: [وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم].
ثانيا: اليهود، وهم أشد الناس عداوة للاسلام وأهله.
ثالثا: الدول والإمبراطوريات التي كانت ترى في السلام خطرا أكيدا عليها، كالرومان والأكاسرة والقياصرة.
رابعا: المراكز المنحرفة والفاسدة التي حاولت عبثا أن تجد لها موطأ قدم في أرض الواقع، يضاف إليها مدعي النبوة ممن وجدوا أعدادا لا يستهان بها من الحمقى والمغفلين يؤيدونهم في ترهاتهم ومفاسدهم أمثال: مسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد، وسجاج بنت الحرث.
وغير ذلك من الأسباب الأخرى، والتي أدرك الإمام علي عليه السلام مدى خطرها على الدولة الاسلامية المباركة التي كان لجهاده وسيفه الفضل الأكبر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في إقامتها وتثبيتها.
وإليك أخي القارئ الكريم شيئا من كلماته عليه السلام الموضحة لواقع الحال الذي عايشه عليه السلام، والذي دفعه لغض النظر عن حقه الشرعي، ومكانه الحقيقي:
قال عليه السلام فيما يعرف بالخطبة الشقشقية: " أما والله لقد تقمصها فلان [وفي بعض المصادر: ابن أبي قحافة، ولا خلاف في ذلك، فإن الحديث لواضح، والتلميح يغني عن التصريح هنا] وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى به، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى.
فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا... ".
وفي إحدى خطبه عليه السلام يقول: "... فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فظننت بهم على الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم ".
وفي كتابه عليه السلام إلى أهل مصر يقول: ".. فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ليبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم ".
وقوله عليه السلام عند فتنة الجمل: " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي، مستأثرا علي منذ قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله حتى يوم الناس هذا ".
ويروي هو عليه السلام حديثا له مع بعض الصحابة: " وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب - لحريص!
فقلت: بل أنتم والله أحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه.
فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به ".
وأخيرا إليك أخي القارئ الكريم دعاء أمير المؤمنين عليه السلام وتظلمه مما وقع عليه من قبل قريش، فتأمل فيه بروية وإمعان: " اللهم إني أستعديك على قريش، ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ".