أصل الشيعة وأصولها - الشيخ كاشف الغطاء - الصفحة ١٨٨
لعل تلك الكلمات لم يسمعها كلهم، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تلحق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام (1).
(١) بلى إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لهم من الفضل والدرجة العظيمة التي ليست بخافية على أحد، بل وكانوا ولا زالوا موضع احترام وتقدير وتبجيل من قبل المسلمين، والشيعة في أوائلهم. ولا غرور في ذلك، فإن كتاب الله عز وجل يحدثنا في أكثر من موضع عن تلك المنزلة السامقة لأولئك المؤمنين المجاهدين الذين شادوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام صرح الاسلام، وأقاموا أركانه.
قال الله تعالى في أواخر سورة الفتح المباركة: [محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.].
وكذا ترى ذلك بوضوح عند مراجعتك لأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام، وذلك ما لا ندعيه ولا نتقوله.. إلا إنا لا نتفق مع من يذهب إلى سريان هذا الأمر على جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله، دون فحص وتمييز، وكذا يوافقنا في ذلك كل عاقل منصف مدرك للحقيقة.
فالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والوقائع التأريخية الثابتة تؤكد صواب ما نذهب إليه، وبطلان ما ذهب إليه الآخرون، سواء كانوا من الذين أظفوا هذه الصفة على الجميع، أو من طعنوا في الجميع دون دليل أو حجة أو برهان سليم، وإن كانت الجماعة الأولى هي الأكثر، وهي صاحبة الرأي السائد عند إخواننا من أبناء العامة، وهم يشكلون الطرف الأكثر والأوسع في عموم المسلمين، قبال الشيعة التي تشكل الثقل الأكبر الثاني في المذاهب الاسلامية المختلفة.
وإذا كنا لا نتفق معهم في نسبة العدالة إلى جميع الصحابة دون استثناء، ودون مناقشة تذكر في صحة نسبة تلك العدالة إلى بعض الجماعات التي ثبت تاريخيا انحرافها عن مفهوم العدالة الاسلامية، فإن هذا لا يعني أبدا الاتفاق مع الجماعة الأخرى الذاهبة إلى الطعن في جميع الصحابة، لأنه رأي تافه وسقيم ولا يستحق النقاش، ولذا فإن حديثنا سيكون مع الجماعة الأولى، والتي تلقي باللوم على الشيعة لاعتمادهم أسلوب تقييم الصحابة وفق المنهج السماوي والمقياس الشرعي الذي جاءت به الشريعة الاسلامية المتكاملة والواضحة، من دون تحزب أعمى، أو تعصب مقيت، وحيث تعضدنا في ذلك المبادئ السليمة التي اعتمدناها في هذا تبني هذا المنهج السليم. فلنتوقف قليلا ولنتأمل فيما نقول.
أقول: ولنبتدأ أولا بما تقدم منا من ذكر الآية المباركة السالفة والمثنية على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فهذه الآية القرآنية المباركة تحمل في طياتها الدليل الواضح على صحة هذا الاستثناء الذي نقول به، والمؤيدة له، حيث جاء في آخرها [وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما] فكلمة (منهم) المبعضة تدل بوضوح على التمييز بين فئتين أو طائفتين، إحداهما مؤمنة عاملة، والأخرى لا بد أن تكون مخالفة لها. بل وفي قوله تعالى في نفس السورة (الآية ١٠) [إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما] عين الدلالة، وذات المعيار، وغيرها وغيرها.
ثم أوليس قد تواتر في كتب القوم المعروفة بالصحاح وغيرها الكثير من الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله الدالة بوضوح على انحراف جماعة معلومة ومبجلة من الصحابة معروفة بأعيانها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله المروي في البخاري (٨:
١٤٨): " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجالا منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي!
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
ومثله روى ذلك مسلم في صحيحه (٤: ١٧٩٦) وأحمد في مسنده (٣: ١٤٠ و ٢٨١ و ٥: ٤٨، ٥٠، ٣٨٨، ٤٠٠).
وأما الحاكم النيسابوري فقد روى في مستدركه (٤: ٧٤): " إني أيها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئت قام رجال، فقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان. فأقول: قد عرفتكم، ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقري ".
بل إن ابن ماجة في سننه أضاف أن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في حق أصحابه أولئك " سحقا سحقا ".
ثم ألم يمر علينا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله مع أبي بكر وهو من كبار الصحابة وأعيانهم عندما قال صلى الله عليه وآله عن شهداء أحد: " هؤلاء أشهد عليهم " فقال له أبو بكر: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ". أنظر:
موطأ مالك ٢: ٤٦١ / ٣٢.
فانظر وتأمل في دلالة هذا الحديث، ومن هو المخاطب، لتدرك بوضوح أن لا أحد مستثنى من هذه الموازين الشرعية، فمن خالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله واتبع هواه وهوى الشيطان فإن الشريعة الاسلامية هي التي تنبذه لا نحن، وتلك بديهية لا أعتقد أنها تحتاج إلى برهان.
فهل نأتي نحن المسلمين في آخر الزمان ضاربين عرض الحائط بأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله بحق هذه الطائفة ممن أحدثوا وبدلوا وغيروا وانحرفوا لنترحم عليهم، ونبجلهم ونقدمهم، دون وعي أو تدبر أو دليل؟! إن ذلك لا يقول به عاقل أبدا.
ثم أعود فأسال: من كان أصحاب الإفك الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله، واتهموه في عرضه، والذين توعدهم الله تعالى بالعقاب الأليم والعذاب الشديد، هل كانوا إلا جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله، أم ماذا؟
بل ومن أولئك الذين أرادوا الكيد برسول الله صلى الله عليه وآلهوقتله عند عودته من تبوك، هل كانوا أيضا إلا من صحابته صلى الله عليه وآله (راجع: مسند أحمد ٥: ٤٥٣، مغازي الواقدي ٣: ١٠٤٢، دلائل النبوة للبيهقي ٥: ٢٥٦، وغيرها).
ثم ماذا يعني هذا التكرار الواضح في آيات القرآن الكريم المحذرة من كيد المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأسروا الكفر والمعاداة، حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة المنافقين والمنافقات في القرآن الكريم (32) مرة.
وأخيرا أعود فأسال العقلاء: كيف تستسيغ العقول أن تضفي مسألة العدالة والنزاهة على جميع الصحابة دون استثناء أو تأمل في سيرة ذلك الصحابي وعرض أفعاله على المقياس الشرعي الذي أقرته الشريعة الاسلامية الخالدة لا لشئ إلا لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أو صحبه، وكأن في تلك الصحبة تنزيها أو عصمة من الإدانة والمحاسبة، وجوازا للفوز بالرضا الإلهي، مهما فعل هذا الصحابي وأسرف وخالف، رغم مخالفة ذلك التصور السقيم لأبسط المفاهيم الاسلامية المعروفة لدى جميع المسلمين؟! إن ذلك والله لمن عجائب الأمور. كيف وأن الله تبارك وتعالى قد هدد زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وهن أقرب إليه صلى الله عليه وآله، وأشد تماسا به من جميع الصحابة بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن ما يخالف الشريعة الاسلامية، دون نظر منه تبارك وتعالى إلى شدة هذا التماس وهذا القرب، إذ قال جل اسمه في سورة الأحزاب (الآية 30): [يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا] فإذا كان الأمر وفق هذا المفهوم فإن من يخالف من الصحابة يجب أن يضاعف عليه النكير، لأنه أساء إلى شرف الصحبة وكرامتها.
نعم إن لدنيا ألف دليل ودليل على صحة ما نذهب إليه، ولا أريد هنا استعراض جملة معروفة ممن يسمون بالصحابة هم والله أشد ضررا وكلبا على الاسلام وأهله من النصارى واليهود، فليس هذا المكان المحدود بمحل مستساغ لهذا المبحث المهم، إلا إني أعتقد بأن القول بعدالة جميع الصحابة والذي كان أول من دعا إليه أهل الحديث ثم أصبح بعد ذلك عقيدة ثابتة من العقائد التي منحت على أساسها تلك الجماعات سهما في التشريع الاسلامي، بل وأن تكون لهم سنن كسنن رسول الله صلى الله عليه وآله، بل وأن تكون آرائهم حجة على الناس إلى يوم القيامة - كان من بدع الفئات المنحرفة عن أهل البيت عليهم السلام، والمناصرة لفساد معاوية بن أبي سفيان، وبسر بن أرطأة، وسمرة من جندب، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن حديج وغيرهم ممن لا عذر لهم في كثير من أفعالهم الفاسدة، ولا يستطيع أحد تقديم العذر لهم فيها، إلا عن طريق نسبة العدالة إليهم، وكذا نسبة حق الاجتهاد لهم حتى ولو كان ذلك قبالة النص، فعمدوا إلى ذلك، وتشبثوا به، فصار هذا الخليط الممجوج الهجين سنة سارت عليها الجماعات اللاحقة بهم دون أدنى وقفة أو مراجعة لمدى صواب ذلك المنهج الخاطئ والمردود.