من لم يكن درهم لديه * لم تلتفت عرسه إليه ثم إنه لما علم أن مجرد المراسلات والمكاتبات لا تنفع الغليل ولا تشفي العليل توجه إلى العراق لزيارة الأئمة وإقامة الحجة على الطاغين، ثم إنه بعد الوصول إلى تلك المشاهد العلية لبس ثيابا خشنة عتيقة، وتزيا بهيئة رثة بالاطراح والاحتقار خليقة.
ودخل بعض مدارس العراق المشحون بالعلماء والحذاق، فسلم عليهم فرد بعضهم بالاشتغال والامتناع التام، فجلس في صف النعال ولم يلتفت إليه أحد منهم، ولم يقضوا واجب حقه، وفي أثناء المباحثة وقعت بينهم مسألة مشكلة دقيقة كلت فيها أفهامهم، وزلت فيها أقدامهم، فأجاب بتسعة أجوبة في غاية الجودة والدقة، فقال بعضهم بطريق السخرية والتهكم: أخا لك طالب علم، ثم بعد ذلك أحضر الطعام فلم يؤاكلوه بل أفردوه بشئ قليل على حدة واجتمعوا على المائدة فلما انقضى ذلك المجلس قام قدس سره.
ثم عاد في اليوم الثاني إليهم وقد لبس ملابس فاخرة بهيئة الأكمام واسعة، وعمامة كبيرة وهيئة رائعة، فلما قرب وسلم عليهم قاموا تعظيما له واستقبلوه تكريما، وبالغوا في ملاطفته ومطايبته، واجتهدوا في تكريمه وتوقيره، وأجلسوه في صدر ذلك المجلس المشحون بالأفاضل المحققين والأكابر المدققين.
لما شرعوا في المباحثة والمذاكرة تكلم معهم بكلمات علية لا وجه لها عقلا ولا شرعا، فقبلوا كلماته العليلة بالتحسين والتسليم والاذعان على وجه التعظيم، فلما حضرت مائدة الطعام بادر الاعلام معه بأنواع الأدب، فألقى الشيخ كمه في ذلك الطعام مستعتبا على أولئك الاعلام، وقال: كل يا كمي.
فلما شاهدوا تلك الحال العجيبة أخذوا في التعجب والاستغراب، واستفسروه عن معنى هذا الخطاب، فأجاب قدس سره بأنكم انما أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة لا لنفسي القدسية اللامعة، والا فأنا صاحبكم في الأمس، وما رأيت تكريما ولا تعظيما، مع أني جئتكم بالأمس بصورة الفقراء وسجية العلماء واليوم