بما يفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين، ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله، كيف وإن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل، وقد تحقق، والقتل انما هو لتحقيق الوعيد به، والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام، ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل، دون القتل بالفعل، على ما يشهد به العرف، فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما، كيف وإن تقديم حق الآدمي ها هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقا، لبقاء العقوبة الأخروية، وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبة البدنية مطلقا، فكان ذلك أولى.
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين، بل على فروعه، وفروع الشئ غير أصل الشئ، ثم وإن كان، فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم، فلانه لا يفوت مطلقا، بل يفوت إلى خلف، وهو القضاء، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين، بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين، ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده، وذلك من مصلحة الدين، لا من مصلحة غيره، وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات، فكذلك ما يتعلق من مقصود النفس يكون مقدما على غيره من المقاصد الضرورية، أما بالنظر إلى حفظ النسب، فلان حفظ النسب إنما كان مقصودا لأجل حفظ الولد، حتى لا يبقى ضائعا لا مربي له، فلم يكن مطلوبا لعينه بل لافضائه إلى بقاء النفس واما بالنظر إلى المال فلهذا المعنى أيضا فإنه لم يكن بقاؤه مطلوبا لعينه وذاته، بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة، حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات.
وأما بالنظر إلى حفظ العقل، فمن جهة أن النفس أصل، والعقل تبع، فالمحافظة على الأصل أولى، ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا، وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقا،