الرابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للاثبات، والأخرى مقتضية للنفي، فالنافية تكون أولى، لان مقتضاها يتم على تقدير رجحانها، وعلى تقدير مساواتها، ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها، وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين.
فإن قيل: الا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق، بخلاف النافية، وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى، وأيضا فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع، تقليلا لمخالفة الدليل، كيف وإن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين، وعلى هذا فيتساوى القدمان.
قلنا: أما كون حكم إحدى العلتين شرعي، فلا يرجح به، لان الحكم إنما كان مطلوبا لا لنفسه، بل لما يفضي إليه من الحكم به، والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم، يود تحصيلها بواسطة نفيه، كيف وإن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي، والمثبتة على خلافه، فكانت أولى.
وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع، فهو معارض بمثله في المثبتة، وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع، تقليلا لمخالفة الدليل النافي، وليس أحدهما أولى من الآخر، والتخيير وإن كان مقولا به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه، فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله، كيف وإن الحكم إنما يثبت لما يصلح أو يكون مقصودا، وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساويه لا يصلح أن يكون مقصودا، فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده.