لذي عقل أن يقول: إن الله تعالى أباح للجائع الجوع، وللمريض المرض، ولأهل جهنم الكون في جهنم، وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني.
فإن قال قائل: فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول، واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للامر المنسوخ قبل أن ينسخ، ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا.
قيل له: هذا شغب فاسد، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت، بل هو قولنا نفسه، وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شئ أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شئ أو إباحته، فواجب في العقول الانقياد لذلك، والانقياد لمنع ما أبيح، أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الامر المتقدم، فلم يحدث في العقول شئ لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة، وقد قال بعض القائلين بالحظر: إن معنى قوله عز وجل : خلق لكم ما في الأرض جميعا إنما معنى هذا ليعتبر به.
قال أبو محمد: وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان. ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة، فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم: إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود، معنى الزكاة طهارة الأنفس، ومعنى الحج القصد إلى الامام، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة، وأدى إلى إبطال جميع التفاهم، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه، وهذا هو إبطال الحقائق، وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا: إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبي بعدي، أي من العرب فقط، وساغ للمعتزلة أن تقول: وخلق كل شئ، أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات، وساغ للحشوية أي تقول: بل خلق كل شئ حاشا الروح والايمان والكلام المسموع من القراء، وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شئ من الخير