واستقرت الشرائع. وقسم ثان: علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص، وقسم ثالث: بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ، أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق.
فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الامر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ، لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه، ولا يسقط اليقين إلا بيقين. برهان هذا: أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة، وبأقصى جزيرة العرب، فنزل الامر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة، وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق، وإمساك المشركات وغير ذلك. فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه. وكذلك كان ينزل الامر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك، فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ، بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا، والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه.
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب، إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك، بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل: إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق، لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) قلنا: لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ، وإنما خاطب الله بهذا الامر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الامر إليهم بتركه.