قال علي: والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل. وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده، ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط.
فقال هؤلاء: إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته.
قال علي: ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا، ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده، ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون، وأنه لا يرضى لنا الكفر، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن، وعمران هذا القفر: ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن. فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل.
قال علي: وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالايمان بالله عز وجل، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الانسان غير مأمور لفعل. ولما كان هنالك شئ يمنعه من ذلك تعالى وجهه، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالايمان أمر إلزام، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم، فإذا احتلموا لزمهم الايمان فرضا، وحرم عليهم الكفر حتما، ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شئ بيضة، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا. بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها، ولا فرق. هذا شئ يعلم بالحس والمشاهدة، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين. وهذا شئ قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل