الجدال المأمور به المحمود، لأنا قد وجدناه تعالى قد قال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا) * ووجدناه تعالى قد قال: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة. وقال تعالى: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) *. ولم يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه، ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم، مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الامر الأصوب، وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه. وقال تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ئ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *.
قال أبو محمد: ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة، وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل، وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الانصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا، لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون.