ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول. لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الاحكام في كتاب التقريب. وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الايضاح.
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلالية فاسدا، إما الأول، وإما الثاني، وقد يكونان معا فاسدين، فينتقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد. أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح. لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة.
لان الشئ لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد. وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها. وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة، فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الامر وكثرة العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشئ وقف على اليقين بلا شك.