هذا شئ يوجد حسا كما ترى، وقد يدخل أيضا على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصا، فربما ظنه زيدا وكابر عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق، وقد يعرض ذلك الشئ، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة، فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شئ من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس، ولولاه لم نعلم أصلا، كما أن حواس المجنون المطب والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع، يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة. ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الاذعان بالحق، وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل، بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين. وقد أحكمنا هذا غاية الاحكام والحمد لله رب العالمين، في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته (باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة).
وقد سألوا أيضا فقالوا: بأي شئ عرفتم صحة حجة العقل؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد، وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها، والجواب على ذلك وبالله تعالى