قال أبو محمد: فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شئ إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال: * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) فذم تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة، وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق. وقال تعالى: * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *.
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا: أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شئ إلا ما قامت عليه حجة العقل، وهؤلاء المذمومون الذين قال الله تعالى فيهم: * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * وبقوله تعالى: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) * فبين تعالى كما ترى أن الجدال ا لمحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد: ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال: * (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *، فبأي شئ يعرف المحق منهما من المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها؟.