ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد فقال: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * أما قوله: * (ألم تر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الرؤية قد تجئ بمعنى رؤية البصيرة والقلب، وذلك راجع إلى العلم، كقوله: * (وأرنا مناسكنا) * (البقرة: 128) معناه: علمنا، وقال: * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) * (النساء: 105) أي علمك، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به، وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: ألم تر إلى ما جرى على فلان، فيكون هذا ابتداء تعريف، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية، ويجوز أن نقول: كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم.
المسألة الثانية: هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه، كقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1). المسألة الثالثة: دخول لفظة * (إلى) * في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين) * يحتمل أن يكون لأجل أن * (إلى) * عندهم حرف للانتهاء كقولك: من فلان إلى فلان، فمن علم بتعليم معلم، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه، فحسن من هذا الوجه دخول حرف * (إلى) * فيه، ونظيره قوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (الفرقان: 45).
أما قوله: * (إلى الذين خرجوا من ديارهم) * ففيه روايات أحدها: قال السدي: كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها، والذين بقوا مات أكثرهم، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين، فقال من بقي من المرضى: هؤلاء أحرص منا، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات، ولئن وقع الطاعون ثانيا خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا، فلما خرجوا من ذلك الوادي، ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا، فهلكوا وبليت أجسامهم، فمر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ فقال نعم فقيل