وبالجملة الامر جلي لا يحتاج إلى التطويل، ولا ينبغي لذوي اللب الاصغاء إلى خوار من هو عادم ذاتا لهذا الجوهر الثمين الجليل، أو الاستماع إلى من فكره كليل، وادراكه عليل، فينكر العقل أو حكمه أو هما معا، إذ على التقدير الأول هذا القائل معترف بأنه لا عقل له، فمن لا عقل له فهو مجنون، وليس من شأن العقلاء الاستماع إلى المجانين، وعلى التقدير الثاني أيضا لا يليق للمتأمل الاعتناء بقول هذا المدعي، لأنه مقر بأن حكمه:
(بأن العقل ليس بحاكم) قد صدر عن حكم غير العقل، وكل حكم صدر عن غير العقل لا بد أن يكون منشأه ومصدره الجهل، والعاقل في شغل عن الاصغاء إلى قول يكون مصدره الجهل.
فالمهم - هنا - أن نبين ونشرح المقصود بالعقل، إذ هذا اللفظ - كجل الألفاظ الأخر المشتركة - يطلق على معان عديدة، وبسببه ربما يشتبه المقصود، ويلتبس الامر على السامع والمخاطب، ولبعضهم هنا كلام لعله لا يقصر عما هو المختار، ولذا نكتفي به ولا نتكلف شيئا آخر:
قال: اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وأقسامه وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، والحق الكاشف للغطاء فيه: ان العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان، كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة، وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد، بل يفرد كل قسم منه بالكشف عنه:
(الأول) الوصف الذي به يفارق الانسان سائر البهائم، وهو الذي به أستعد لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث المحاسبي حيث قال في حد العقل: (انه غريزة يتهيأ بها ادراك العلوم النظرية وتدبير الصناعات، وكأنه نور يقذف في القلب،